قبل أيام محا جنودنا البواسل أسطورة قديمة أطلقت عليه بوابة الدموع عندما كان رمزاً للفزع والموت للتجار والبحارة العابرين. وغيرّوا مصيره الذي لن يندب بعد ذلك على حظه ومآله، فمع سيطرة قوات التحالف العربي مطلع الشهر على مضيق باب المندب أصبح لائقاً به أن نطلق عليه باب الكرامة، وبوابة استعادة الشرعية. معركة الساعات الخمس كانت كافية لاستعادة السيطرة على أحد أهم الممرات الملاحية العالمية، لتحقق نصراً استراتيجياً كبيراً لعملية للقوات المشتركة من جانب، ولتطمئن العالم على حركة النقل البحري ومرور سفن النفط في واحد من أهم شرايين التجارة العالمية، والأهم أنها كانت ساعات فاصلة في المشوار الطويل على طريق الوصول إلى صنعاء. منذ البداية أدرك الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي الجغرافيا السياسية لبلاده، ولخص أهمية المضيق بقوله من يمتلك مفاتيح باب المندب وهرمز لا يحتاج إلى قنبلة نووية. ومن هنا كانت أهمية معركة استعادة المضيق الذي سيحرم المتمردين الحوثيين من التمتع بمنفذ بحري يسمح لهم بتلقي المساعدات الإيرانية، وهو ما سيغير قواعد اللعبة، ويخلخل موازين القوى على أرض اليمن. وقبل أشهر وبعد انقلاب جماعة الحوثيين على الشرعية اليمنية اتجهت أنظار العالم إلى المضيق عنق زجاجة البحر الأحمر، وبوابة التقاء الشرق بالغرب، ورابع أهم المعابر المائية في العالم بعد (هرمز وملقا وقناة السويس)، فنشرت مجلة فورين بوليسى FOREIGN POLICY تقريراً مطولاً اهتمت فيه بتناول تقارير إدارة معلومات الطاقة الأمريكية التي حذرت من أن أي إغلاق لمضيق باب المندب سيحول دون وصول ناقلات النفط من الدول الخليجية إلى قناة السويس وخط سوميد لنقل النفط من البحر الأحمر إلى البحر المتوسط، ما سيضطر تلك الناقلات إلى الإبحار جنوباً حول رأس الرجاء الصالح للوصول إلى الأسواق الأوروبية والأمريكية ما يعني زيادة 10 أيام في زمن كل رحلة، ويؤدي إلى ارتفاع تكاليف النقل أضعافاً. وتحدثت مجلة نيوزويك عن مخاوفها صراحة من فرض إيران سيطرتها على المضيق الأهم بالنسبة لها والذي سيمكنها من تشكيل السياسات التجارية والعسكرية في الإقليم وما وراءه. ويستمد باب المندب أهميته الاستراتيجية كممر مائي يصل البحر الأحمر بخليج عدن والمحيط الهندي، ويصلها بالبحر المتوسط وبقية العالم، وهو احد أهم شرايين النقل والمعابر البحرية التي تربط بين بلدان أوروبا والبحر المتوسط من جانب، وعالم المحيط الهندي وشرقي إفريقيا ، وتتعاظم أهميته نظراً لعرضه البالغ (30 كم) وعمقه الذي يتراوح ما بين 100 إلى 200 متر ما يسمح لشتى السفن وناقلات النفط بعبور الممر بسهولة ويسر على محورين متعاكسين ومتباعدين. وتبلغ أحدث التقديرات مرور 21 ألف قطعة بحرية سنوياً بالمضيق بمعدل 57 ناقلة وسفينة يومياً. وإذا كانت أهمية المضيق الاستراتيجية بدأت بعد افتتاح قناة السويس 1869، إلا أن أهميته الحقيقية ازدادت مع ارتفاع أهمية نفط الخليج العربي إذ تمر عبره نحو 6% من حجم التجارة العالمية منها (نحو 3.4 مليون برميل نفط يومياً). وتجدر الإشارة هنا إلى أن أهمية باب المندب مرتبطة ببقاء قناة السويس ومضيق هرمز مفتوحين للملاحة البحرية. ولا يخفى على احد التخوفات الدولية الدائمة التي تتهدد الملاحة في هرمز بعدما شهد العالم منذ الثمانينات خلال الحرب العراقية - الإيرانية تعطلاً كبيراً في حرية التجارة العالمية وصلت بعد ذلك إلى ما أطلق عليهحرب الناقلات إذ تعرضت السفن التجارية إلى تعسف دائم من وحدات البحرية الإيرانية بحجة التفتيش المبالغ فيه. ووصل الأمر ذروته 2012 عندما هددت إيران بإغلاق المضيق حال فرض مزيد من العقوبات الاقتصادية والعسكرية عليها. ولا يخفى على أي متابع أن مضيق هرمز كان ولا يزال أحد أهم أوراق اللعبة التي اعتمد عليها المفاوض الإيراني في إدارة أزمة الملف النووي التي انتهت بتوقيع الاتفاق الشهير مع الدول الست الكبرى منتصف العام. وتشير جغرافية المكان إلى أن عمر المضيق يرجع إلى 25 - 40 مليون عام عندما تشكل بسبب تحرك الصدع السوري الإفريقي الذي كوّن البحر الأحمر في أواخر الحقبة الجيولوجية الثالثة من عصري الميوسين والبليوسين. وهو جزء من الفيلق الإفريقي العربي الذي يمتد من موزمبيق عبر كينيا وإثيوبيا حتى البحر الميت ونهر الأردن. وتشرف على المضيق كل من دول اليمن وجيبوتي وإرتيريا، ويمتد عرضه إلى 30 كم تبدأ من رأس منهالي في اليمن، وصولاً إلى رأس سيان في جيبوتي. ووضعت قوات التحالف العربي جزيرة بريم ميون نصب أعينها عند التخطيط لعملية تحرير مضيق باب المندب، فهي الجزيرة الأهم في معركة فرض السيطرة على المضيق. وتفصل الجزيرة المضيق إلى قناتين الشرقية وتعرف باسم (باب اسكندر) ويبلغ عرضها 3 كيلومترات وعمقها 30 متراً، والغربية دقة المايون ويبلغ عرضها 25 كم وعمقها 310 أمتار، وتقابلهما عدد من الجزر الصغيرة غير المأهولة يطلق عليها الأشقاء السبعة. ولليمن أفضلية استراتيجية في السيطرة على الممر لسيطرتها على بريم، إلا أن القوى الكبرى عملت على إقامة قواعد عسكرية حولها لأهميتها في حركة التجارة العالمية والنقل. وتقع الجزيرة على بعد 100 ميل فقط من مدينة عدن، واستغلتها بريطانيا عام 1799 لمنع تقدم نابليون نحو الهند، ولعقود طويلة كانت مقراً لجماعات القراصنة البحرية التي استغلت موقعها الاستراتيجي كمنصة انطلاق نحو مهاجمة السفن التجارية المحملة بالبضائع والذهب والتوابل، لكن ندرة الماء العذب بها كانت السبب الرئيسي الذي دفع كل من استوطنها عبر التاريخ إلى هجرتها. وبذلت الأمم المتحدة عام 1982 محاولات لتنظيم الممرات المائية الدولية ودخلت اتفاقيتها المعروفة باتفاقية جامايكا حيز التنفيذ نوفمبر/ تشرين الثاني 1994، إضافة إلى ذلك تتمتع الولايات المتحدة بنفوذ بحري وتواجد قوي من خلال القاعدة العسكرية كامب ليمونيه في جيبوتي، إضافة إلى قاعدة فرنسية مماثلة. ومنذ سنوات عدة دعم الكيان من علاقاته مع جيبوتي لضمان موقع قدم يضمن حماية مصالحه البحرية، ومنعاً لتكرار إغلاق المضيق خلال حرب أكتوبر 1973 والذي كان من اهم أسباب إلحاق الهزيمة العسكرية بها. موقع طبيعي خلاب يجمع بين البحر والصحراء في الطريق إلى باب المندب يمر الزائر عبر 3 محافظات عابراً الصحراء وبالقرب من شط بحر العرب. الطريق يبدو كمن خضب الساحل بخط اسود طويل فصل بين الصحراء والبحر عبر عدة طرق مثل رأس عمران، ورأس العارة، وخرز، ومرخة وغيرها من القرى المتناثرة التي تعرف فقط باللوحات الطبيعية المرفوعة على جانبي الطريق تميزها مآذن مساجدها التي تصدح بالآذان وتبشر بالأمان. قرى بسيطة سكنها عبر التاريخ بسطاء في منازل من القش والخشب يحكى مشهدها المتواضع حال ساكنيها الذين يعانون شح المياه والكهرباء وكل الخدمات. ولا يختلف حال ساكني المنازل الحديثة عن حالهم كثيراً. وهناك تتعدد تجمعات البدو الرحل واللافت إن كل بدوي يتخذ من ظل شجرة بيتاً والأشجار هناك بحسب رواية من زارها، كريمة بظلها الوارف، ويكفي البدوي للاستقرار المؤقت هناك ظل شجرة حتى يعلن عن كيانه بين جيرانه، وغير ذلك يعتبر ترفاً عمن عشق الترحال مع ماشيته بحثاً عن الملأ والكلأ. هناك حيث الجبال تمتد لتطل على المضيق لتبدو حصوناً منيعة منحها الله لحراسة المكان، ولا تعد الجبال الأسطورة الوحيدة، فعند جزر حنيش وزقر حيث تلتقي مياه البحر بالمحيط مذكرين بعظمة قدرة الله عز وجل في الآية الكريمة مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لايبغيان هنا تلتقي المياه الزرقاء الصافية لبحر العرب، بمياه البحر الأحمر التي تميل إلى اللون الأخضر. هناك يلمس الزائر اختلاف درجات حرارة المياه بين البحر الدافئ ومياه بحر العرب الباردة، ويروي أهل المنطقة عجائب عن هذه المياه التي يمكن أن تضع فيها كوباً من المياه ثم تسحبه لتجده بارد كأنه حاضر للتو من ثلاجة أو براد. هناك بجزيرة سوقطرى المحمية العالمية لحماية الحياة البرية وفق تصنيف اليونيسكو كأحد مواقع التراث العالمي، يمتد شاطئ ساحر تمتزج رماله بالأحجار بالأفق الممتد على زرقة المياه التي يبدو أنها تعانق نظيرتها في السماء.. كل هذا ينتظر عودة الشرعية إلى اليمن ليبدأ المشوار الصعب في التنمية والبناء.
مشاركة :