فيلم "القداس الأسود": ما بين الواقع والخيال

  • 10/7/2015
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

جورج أناستازيا صحفي وخبير في أخبار الجريمة هل يصوّر الفيلم المثير القداس الأسود، الذي يتناول عالم العصابات الإجرامية ويقوم ببطولته جوني ديب، هذا العالم على نحو دقيق بحق؟ يكشف لنا جورج أناستازيا، وهو صحفي ذو سمعة أسطورية في مجال تغطية أخبار الجريمة، واستُهدِفَ شخصيا ذات مرة من قبل إحدى العصابات، حقيقة هذا الأمر. رغم أنه من المؤكد أنه سيجري مقارنة فيلم بلاك ماس (القداس الأسود) بأفلام مثل غَدْ فاذر (الأب الروحي) أو غود فيلُز (الأصدقاء الطيبون)، فإن فيلم جوني ديب الجديد يمكن أن يشكل فئة قائمة بذاتها فيما يتعلق بالأفلام التي تتناول عالم الجريمة. فهو عمل درامي يتسم بالتركيز على شخصية محورية شريرة، وتخيم عليه أجواء الكآبة والشر. وعلى الرغم من الحديث المستفيض في ثنايا العمل عن الولاء والشرف – كما حدث من قبل في فيلميّ (الأب الروحي) و(الأصدقاء الطيبون)؛ فإن (القداس الأسود) لا يحفل بهذه الأمور على الإطلاق، إذ أنه في الواقع يمثل قصة حافلة بوقائع الإغواء والخيانة. وبرغم أن ذلك لا يجعله أفضل من هذين الفيلمين اللذين سيُقارن بهما، واللذين يعتبران من الأعمال الكلاسيكية التي تناولت عالم الجريمة، فإنه يكسوه بطابع أكثر واقعية منهما. وقد حرص المخرج سكوت كوبر على أن تكون أحداث فيلمه أقرب ما تكون إلى ما ورد في الكتاب الذي استُوحي العمل منه. ويحمل الكتاب عنوان القداس الأسود: ويتي بولجر، /إف بي آي/ وصفقة الشيطان، وكتبه الصحفيان العاملان في صحيفة بوسطن غلوب ديك لِر وغيرارد أونيل، ويُنظر إليه على أنه العمل الأفضل بمراحل بين كل ما كتب عن حياة جيمس (ويتي) بولجر، وهي أعمال زاد عددها عن العشرة. وتناولت هذه المؤلفات حياة بولجر، عضو في عصابة بمدينة بوسطن الأمريكية، استغل عمله مخبرا لحساب مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) للإفلات - حرفيا - من جريمة قتل ارتكبها، وانغمس في تجارة المخدرات وتهريب السلاح والابتزاز والإقراض بفوائد باهظة للغاية. وباعتباري صحفيا عكف على تغطية أنشطة عصابات الجريمة المنظمة في فيلادلفيا ونيويورك ونيوجيرسي على مدى أكثر من ثلاثة عقود، فقد تابعت من بعيد فصول قصة بولجر وهي تتوالى على مسرح الحياة. وما تعلمته على مر السنين، وما ينقله الفيلم لمشاهديه على أكمل وجه، هو أنه ما من وجود لقيمٍ مثل الشرف أو الولاء في عالم العصابات والجريمة. بدلا من ذلك، يسود الجشع والغدر. فقد كان بولجر أستاذا في التلاعب والمناورات، ومريضا نفسيا ذا جاذبية شخصية، جسد جوني ديب دوره ببراعة كاملة في الفيلم. حيث نجح ديب في تجسيد الصورة التي كان عليها عناصر العصابات الإجرامية في أواخر القرن العشرين. الأكثر من ذلك، أن مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي كان شريكا لـبولجر في جرائمه بكل رضا وقبول. فقد وفر مكتب التحقيقات الفيدرالي الحماية لـبولجر من الأجهزة الأمنية الأخرى التي كانت تجري تحريات وتحقيقات بشأنه، وذلك لأن المكتب كان يستعين بالمعلومات التي يحصل عليها من هذا الرجل ومن أبرز معاونيه ستيفن فلَمي المُلقب بـريفل مان (رجل البندقية)، لاستخدامها في الملاحقة القضائية لأفراد عصابة مافيا كانت تحمل اسم (نيو إنغلاند)، وكذلك التمكن من الحصول على أحكام قضائية ضد أفرادها مما أدى إلى القضاء عليها في نهاية المطاف. المفارقة أن العصابة التي كان يقودها بولجر، والتي كانت تحمل اسم عصابة وينتر هيل نسبة لحي في بوسطن، كانت جاهزة بل وتواقة لملء الفراغ الناجم عما أسفرت عنه الملاحقات والمحاكمات التي جرت لأفراد العصابة الأخرى. العبور إلى الجانب المظلم وقد اتسم الفيلم بدقة شديدة في تصوير العلاقة التي جمعت بين بولجر وعميل مكتب التحقيقات الفيدرالي الطموح جون كونولي (الذي جسد دوره الممثل جويل أدغِرتون). فـكونولي القادم من حي ساوث بوسطن، الذي جاء منه بولجر أيضا والذي يتشكل أغلب سكانه من أمريكيين من أصل آيرلندي ينتمون للطبقة العاملة - يشعر بالرهبة من الرجل الذي يُفترض أنه يتولى مهمة التحكم فيه وتشغيله. بل إنه سرعان ما بات صريع فتنة وسحر شخصية بولجر، ليعاقر الشراب معه، ويتقاسمان مائدة العشاء أكثر من مرة، ويتبادلان الهدايا، وهي كلها تفاصيل متأنقة شكلت دائما جزءا من ذاك الإغواء الذي يبرع فيه بولجر. ولكن في الوقت الذي صوّر فيه الفيلم بدقة طبيعة شخصية كونولي من حيث كونه عميلا مارقا فاسدا، فإنه لم يُحمل (إف بي آي) نفسه المسؤولية عن النهج الذي تبناه هذا الجهاز الأمني في إنفاذ القانون، والذي تمثل في أن الغايات تبرر الوسائل، ذلك النهج الذي سُمح له بالازدهار؛ كلما كان الهدف هو ملاحقة عصابات المافيا الأمريكية. ويمكن أن نضرب هنا مثالا يتعلق بما جرى في أواخر تسعينيات القرن الماضي، عندما أبرم جهاز (إف بي آي) صفقة مع رالف ناتالي؛ الذي كان وقتذاك زعيما لإحدى العصابات. فرغم أن مهمة ناتالي كشاهد إثبات لصالح الادعاء أمام المحكمة مُنيت بفشل تام، فإن مكتب التحقيقات الفيدرالي كان مغرما بفكرة قدرته على تجنيد زعيم عصابة للعمل لحسابه وجعله ينقلب على زملائه القدامى، ولم يكبد المكتب نفسه كثيرا من العناء للتحقق من صحة المعلومات التي كان يحصل عليها من ذلك الرجل. ومع أن القداس الأسود لم يبرئ (إف بي آي) تماما من المسؤولية؛ فإنه اكتفى بالإشارة إلى المشكلة المركزية التي سعى لِر وأونيل جاهديّن لشرحها وتوضيحها لقراء كتابهما، ألا وهي أن نكبة بولجر ليست إلا جزءا من مشكلة منهجية يعاني منها مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي. وتتمثل تلك المشكلة في لجوء عملائه إلى اختصار الإجراءات واتباع طرق مختصرة وتجاهل القواعد الواجب مراعاتها، إذا ما كان ذلك سيفضي لإحراز النصر في قضية يواجه فيها المكتب المافيا الأمريكية مرهوبة الجانب. وفي عام 1999، انتقد القاضي الفيدرالي في مدينة بوسطن مارك إل وولف، الذي نقب في خبايا وتفاصيل أنشطة (إف بي آي) على خلفية النهج الذي اتبعه في التعامل مع قضية بولجر، القرار الذي اتخذ من الأساس بإبرام صفقة مع هذا الرجل ومساعده فلَمي. ثم هاجم المكتب لمحاولته إخفاء ما بدر من عملائه من سوء تصرف. وفي حكمه في القضية، استشهد وولف بما كتبه المؤرخ البريطاني اللورد أكتون في عام 1861 من أن الانحطاط يَصِمُ كل ما يجري في الخفاء؛ حتى وإن كان إقامة العدل. وقال القاضي في ذلك الوقت إن هذه القضية تظهر أنه (أكتون) كان على حق. التعامل مع الشيطان ولكن هذا الاتهام المرير لـ(إف بي آي) ككل ليس جزءا من الفيلم، رغم أن التصرفات الشائنة التي أقدم عليها كونولي وعميل آخر زميل له يدعى موريس، شكلت بوضوح القوى المحركة لأحداث العمل. ولكن الفيلم أولى اهتماما أكبر بكثير لما حصل عليه مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي نتيجة للتعاون مع بولجر، وذلك على غرار ما حدث في الكتاب الذي استُوحي منه العمل. ففي إطار أحداث الفيلم، يقول كونولي لموريس عندما بدأ الأخير يشكك في جدوى وصحة التعاون مع بولجر: لقد أخرجنا المافيا من الحلبة. لو لم يكن ذلك أمرا جيدا فما الذي يمكن أن يكون كذلك إذاً. ولكن من الممكن المحاججة بالقول إن المافيا الأمريكية كانت في ذلك الوقت قد باتت بالفعل على طريق الاضمحلال والتلاشي، وإن المعلومات التي قدمها بولجر لم يكن لها نفع يذكر. وفي هذا السياق، يمكن لنا ذكر أن كونولي نسب لـبولجر – في تقارير رفعها لرؤسائه عندما كان مسؤولا عن تشغيله – الفضل في توفير معلومات وافاه بها في الحقيقة مخبرون آخرون، وذلك لتعزيز قيمة هذا المخبر باعتباره أحد أصوله المادية الثمينة. ومع أن تصوير الأحداث في الفيلم يتماشى بدقة مع المسار الذي رُسم لها ببراعة شديدة في الكتاب؛ فإن ذلك لم يحدث طيلة الوقت. بجانب ذلك، هناك مشهد يُظهر بولجر وهو يكشف لمساعده فلَمي للمرة الأولى أنه أقام علاقة عمل مع (إف بي آي). فرغم أن الفيلم يُظهر فلَمي وقد بدا مصدوما لذلك، فإن الواقع يفيد بأنه كان يعمل مخبرا لحساب مكتب التحقيقات الفيدرالي حتى قبل أن يقرر بولجر التعاون مع المكتب. علاوة على ذلك، ثمة مشهد يهرع فيه كونولي لتحذير بولجر من أن مخبرا أخر يُمِدُ السلطات بمعلومات عنه، وهو أمر حدث في كثير من الأحيان بالمناسبة، وهو ما قاد كونولي لأن يُزج به وراء القضبان حيث يقضي حاليا عقوبة بالسجن لمدة 40 سنة، لإدانته بتقديم معلومات لبولجر أدت لحدوث جريمة قتل واحدة على الأقل. على أي حال، في هذا المشهد يبادر كونولي ويتي بولجر بالحديث في وسط الطريق وفي خضم استعراض الاحتفال بيوم القديس باتريك أمام مئات من النظارة وفي حضور اثنين من كبار معاوني بولجر في العصابة. وهنا يتعين القول، إنه ما من عميل يعمل لدى أيٍ من أجهزة الأمن يمكن له أن يقترب من مخبر سري رفيع المستوى يتعامل معه في وضح النهار هكذا، وفي ظل ظروف مثل هذه. ويمكن لنا هنا الاستشهاد بتجربة رون برافيتي، وهو أحد رجال عصابات فيلادلفيا. وكان برافيتي يعمل مخبرا متعاونا مع (إف بي آي) لمدة عامين تقريبا، ظل خلالهما يرتدي جهازا إلكترونيا يحدد موقعه وينقل ما يجريه من محادثات إلى مشغليه. فقد كان هذا الرجل دائما ما يقصد الأماكن النائية المعزولة الخالية من المارة للالتقاء بمشغليه لتسليم أشرطة التسجيل التي تتضمن المحادثات التي جرى التنصت عليها لحسابهم. وفي يوم ما، وصف لي برافيتي حياته وهو يرتدي أجهزة الرصد والتنصت تلك بالقول: كانت لعبة قط وفأر. أحببت كل دقيقة عشتها خلالها. على أي حال تجدر الإشارة إلى محدودية العثرات التي شابت الفيلم. فالتقنيات السينمائية التي لجأ إليها صناعه، لضبط وتعزيز تماسك قصة سُردت على مدى أكثر من 300 صفحة وكان من الممكن أن يقود تناولها بشكل آخر لإنتاج عمل سينمائي تتراوح مدته ما بين أربع أو خمس ساعات، أدت إلى ألا يغفل الفيلم أياً من أحداث هذه القصة. رغم ذلك، فما نجح فيه الفيلم في نهاية المطاف هو توضيح حقيقة بسيطة برزت أمامي مرارا وتكرارا خلال تغطيتي أخبار عالم الجريمة المنظمة، ألا وهي أنه لا يوجد أخيار في غالب الأحيان. وأن الأمر بالنسبة لعملاء (إف بي آي) وممثلي الادعاء الفيدرالي في الولايات المتحدة، ليس إلا لعبة يكتسي إحراز النصر فيها في بعض الأحيان بأهمية تفوق تلك التي تُولى لإحقاق الحق وإقامة العدل. يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Culture.

مشاركة :