صفحاتٌ من كتابِ العُمْر «الحسا» ولو ربع القوت

  • 6/17/2021
  • 00:00
  • 97
  • 0
  • 0
news-picture

استمتعت بتتبع سيرة معالي الدكتور عبدالرحمن بن أحمد الجعفري، والتي قضيت معها عدة أيام. بدءًا بمولده وطفولته بالأحساء المنطقة المتسامحة والمرحبة بالغريب، والتي ترفض التعصب والتزمت، ومن مظاهر تسامحها وعمق التحضر عند أبناء الأحساء أن يجتمع بها أصحاب المذاهب السنية الأربعة – الشافعي، والمالكي، والحنفي، والحنبلي – والمذهب الاثنا عشري. ويتعايشون كمجتمع واحد. وقد لمست وشهدت هذا قبل نحو ستة عقود. إذ كنت عام 1385هـ 1965م آتي للأحساء مندوباً من رعاية الشباب لتنظيم الدوري الرياضي بين أنديتها – هجر والتقدم بالهفوف، والفتح بالمبرز – وأبقى بها لثلاثة أشهر، وبعد عشر سنوات بقيت بها لثلاث سنوات ونصف بعد أن أسس مكتب لرعاية الشباب بها وكثرت الأندية في قرى الأحساء الشرقية والغربية من الطرف إلى العيون، مروراً بالقرى الكبيرة. طوال هذه الفترة لم ألمس أي نقد أو اعتراض أو اختلاق مشكلة بين أبناء المنطقة سواء المذهبية أو العنصرية أو المناطقية، حتى أن أحد موظفي المكتب من أبناء بلدة الطرف لم أعلم أنه من أبناء الشيعة إلا بعد مرور عشرين سنة، إذ كنا كأسرة واحدة في المكتب أو الرحلات وغيرها وكنا نأكل سوياً ونصلي سوياً. وقد تغيرت الحال بعد سنوات إذ علمت ببداية التعصب والتطرف تغزو هذه المنطقة الوادعة. معذرة من القارئ الكريم لهذا الاستطراد بالذكريات التي تعيدنا إلى ما قبل نصف قرن، ولكن الجعفري الذي قال عنها: «تلك هي الأحساء التي أحببتها.. بل عشقتها». قال إن أجداده قدموا من المدينة المنورة – فهم يعودون إلى أسرة الجعفري الطيار– نسبة إلى جعفر الطيار رضي الله عنه -. وأن جد الأسرة الشيخ نصرالله إمام مسجد الجبري بالكوت والإمامة والخطابة بالعيدين وصلاة الجمعة، وهو من علماء المذهب الشافعي، وحكام الأحساء وقتها (الجبريون) على مذهب مالك. وقال أن أبناء الأحساء فلاحون ولكن بعد ظهور النفط انتقلت العمالة إلى الظهران وإلى الرياض لمزاولة الأعمال المهنية، وأحدهم والده الذي استقر بالرياض لمزاولة مهنة الخياطة، رغم أن أبناء الأحساء يفضلون البقاء راضين ببساطة العيش، ومرددين مقولة (هجر وربع القوت). وصف الأحياء والمزارع، والبيت الأحسائي، ومناسبات الزواج، وهو الأبن الوحيد بين ثلاث نساء والدته وجدته وزوجة جده المتوفى. عند بلوغه السادسة من عمره انتظم في مدرسة علي اليماني التي تعلمهم القرآن ومبادئ الحساب والكتابة. ومع بداية الحرب العالمية الثانية بدأ معلمهم يقرأ بعض أخبارها في الصحف. وقضية فلسطين التي روت له المرأة المتشحة بالسواد أهوالها مع اليهود، وهي تطلب إعانتها من الموجود تمر ولبن، وبقي يحلم بما أصاب أبناء فلسطين ويسأل جدته: هل يمكن أن يحدث لنا مثل ما حدث لأهل فلسطين؟ ختم القرآن في التاسعة من عمره، فبقي بالبيت مع ثلاث نساء إذ أن والده قد استقر في الرياض يزاول مهنة الخياطة. وإذا ابن جيرانهم الذي يدرس في المدرسة الأميرية التي أسسها الملك عبدالعزيز عند زيارته للأحساء عام 1931م يقرأ بعض النصوص والقصائد ويرددها بصوت عال على سطح منزلهم في الليل، وكان يشعر بالغيرة منه ويطلب من جدته – والدة والده التي لها الأمر والنهي في البيت – أن يقرأ مثله، وافقت جدته بعد إلحاح، فلبس ملابسه الجديدة ورافقه إلى المدرسة، وقابل معه مديرها عبدالمحسن المنقور، فسأله عن عمره وحفظه للقرآن فوجهه للصف الثاني الابتدائي. فاستلم المقررات المدرسية وحملها إلى البيت كما يفعل ابن الجيران. انتقل بعد سنة إلى مدرسة الكوت الجديدة ومديرها عبدالله العلي المبارك. وبعد أشهر توفىت جدته – قطب العائلة – فتولت مسؤولية البيت والدته من بعدها، فقرر والده نقلهم إلى الرياض فخسر سنة دراسية إذ كان موعوداً بدراسة الصف الخامس صيفاً والانتقال للسادسة في العام القادم. وكان والده يريده إلى جواره ليعلمه مهنة الخياطة ليساعده في عمله لتوفير لقمة العيش، ومادام يتقن الكتابة والقراءة فهذا في نظره يكفي. وقال عن الرياض أن مجتمعها منغلق، لا مقاه ولا حدائق ولا أي مكان يقضي فيه الناس أوقات فراغهم. درس في المدرسة الفيصلية بحي الشميسي، وعند امتحان السنة السادسة مركزياً لطلاب مدارس الرياض، يؤدونها في المدرسة الأهلية بالبطحاء عام 1374هـ 1954م، وكل طالب له رقم جلوس، ولا يسمح للطالب بالامتحان إلا بوجود (تابعية) فذهب مع زميلين له إلى الجوازات والجنسية وقابلا المسؤول وقال انه يُدعى عبدالرحمن العسكر، [والصحيح أنه عبدالعزيز] الذي رفض شهادة زميليه، إذ طلب إثنين من أبناء الأحساء، فبلغت به الجرأة للذهاب لمدير الجوازات محمد بن ضاوي الذي يعرف والده فاكتفى بشهادة زميليه، فأدرك «... أن الإدارة الفعّالة لا تعني التطبيق الحرفي للنظام من دون تدبر مقاصده، وأن أهم مقومات الإدارة الفعالة وجود رجال يحسنون التصرف ويعرفون مقاصد النظام، ويحكمون العقل ويزنون الأمور بميزان المصلحة التي قوامها التيسير على الناس وتسهيل أمورهم، دون تفريط في الحقوق..». سافر في العطلة المدرسية مع عمه محمد لعلاج ابنه في مصر عن طريق لبنان بعد موافقة والده الذي زوده بألفي ريال. وركبوا البحر بالسفينة من لبنان إلى الإسكندرية ومنها للقاهرة، وكانت أولى الهزات الحضارية مشاهدة النساء بملابس البحر يتشمسن غير عابئات بالمارة والباعة المتجولين. استقروا بالقاهرة وحملوه مسؤولية إدارة وترتيب النفقات اليومية. وكانت تكلفة الفطور والغداء لا تزيد عن الجنية الواحد للخمسة، وقال إن الجنيه وقتها يزيد على العشرة ريالات. التحق بالمدرسة الثانوية وكانت وقتها ست سنوات دراسية منها 3 متوسطة ومثلها ثانوية. اكتشف مرض والدته، وبعد مراجعة مستشفى الشميسي الذي اكتشف اصابتها بالتدرن الرؤي، فذهب بوالدته إلى الطبيب السوري الشهير (رسلان) وبعد الأشعة والفحوصات تأكد لهم إصابتها بالسل، فلا بد من بدء العلاج من اليوم حتى لا تعدي غيرها، ونصحهم بالسفر إلى لبنان وإلى (مصح العزونية) لتخصصه بمثل هذا المرض. •الغريب أن اسماعيل رسلان الذي افتتح عيادة في شارع الوزير قد اشتهر وأخذ سمعة واسعة بين المرضى وبالذات كبار السن. وأذكر أن والدتي رحمها الله قبل عشر سنوات كانت تشكو من آلام في المعدة وصداع وعرضتها على عدد من الأطباء، وكانت تقول ما يقف على علتي إلا اسماعيل رسلان. وسألنا عن عيادته قالو أنه أصبح يدير مستشفى بالمربع فذهبت بها إليه وإذا هو في عمارة من ستة طوابق. فسألت الاستقبال عنه فقالوا إنه مجاز وسوف لن يعود إلا بعد ثلاثة أشهر، وسألت عن غيره فقالوا فيه من أجرة الكشف بمائة ريال وآخر بخمسين ريال، أما اسماعيل رسلان فأجرته ثلاثمائة ريال. ووالدتي تتذكره قبل ستين عاماً عندما كانت بالرياض في مطلع السبعينيات الهجرية الخمسينيات الميلادية - سافرت العائلة بكاملها إلى لبنان وأدخلت والدته المصحة، وبقيت العائلة معها أما هو فعاد للرياض لمواصلة دراسته. وأصبح يعيش بمفرده ويدعو بعض زملائه ويطهو لهم الطعام ويذهب أحياناً لمطعم بشارع الظهيرة يملكه رجل من الصومال ويحضر المكرونة بالصلصة الحمراء. – وفعلاً أتذكر هذا الصومالي وكنت ممن تعجبه المكرونة وطريقة تقديمها وأذكر أن قيمة الصحن لا يتجاوز الريال الواحد - . أثناء حرب بور سعيد والاعتداء الثلاثي على مصر عام 1956م ونمو المد القومي وحماس الشباب للدفاع عن مصر، وقال إنه ذهب مع زميله «... فهد العبدالجبار إلى مكتب البرقيات جنوب شارع الوزير وابرقوا للملك سعود طالبين باسم زملائهم طلاب المدرسة الثانوية التطوع للمشاركة في الدفاع عن مصر، وفعلاً جاءت الموافقة، وفتحت الكلية الحربية للمتطوعين، وكنا من بينهم، فتدربنا على السلاح، كما تدرب أمراء، منهم الأمير (الملك) فهد، والأمير (الملك) عبدالله، والأمير (الملك) سلمان، وغيرهم. وكان هناك شعور قومي وتلاحم بين أبناء الأمة العربية..» ص118. وقال أن المدرسة قد عرضت مسرحية (نهوض الشرق) وأبطال المسرحية عبدالناصر وسعود وشكري القوتلي، ونهرو وسوكارنو، وقال إنه مثل دور الملك سعود، وفاروق أخضر دور عبدالناصر، ومثل حسن بن سعد بن سعيد دور شكري القوتلي. وقال: «... ولكن تلك الطموحات وعلى مر الزمن بدأت تتلاشى مع عودة المستعمر الذي خرج من الباب وعاد من النافذة بمصادرة القرار الوطني في عديد من الدول العربية..» ص 120. وكانوا يجمعون التبرعات للجزائر عام 1957م، ويحملون مكبر الصوت ويجوبون الشوارع ويبيعون طوابع عليها علم الجزائر، وكان الطابع بربع ريال. وذهبوا إلى (أم الحمام) ودخلوا قصر الأمير (الملك) خالد فشجعهم وحث الحضور من حوله على التبرع وأوصاهم بالدخول إلى بيته والتحدث إلى أهل البيت عن التضحيات التي يقدمها الشعب الجزائري من أجل حريته واستقلاله – فتبرعت زوجته بخمسة آلاف ريال، فخرجوا بعشرة آلاف وهي أكبر حصيلة جمعوها -. بعد سنة عادت الأسرة من لبنان وقد شفيت والدته، ونجح في دراسته الثانوية ولم يتحقق له ما يريد في الابتعاث للولايات المتحدة، لوجود استثناءات حرمته منها رغم مشاطرة والده الذي قرر الذهاب للطائف ومقابلة وزير المعارف الشيخ حسن آل الشيخ. عاد والده الذي لم يوفق في مسعاه، فقال لابنه: « لا تحزن، تستطيع اختيار البلد الذي ترغب الدراسة فيه على حسابي «. فاختار مصر ودخل جامعة القاهرة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية. عاد بعد أشهر إلى الرياض ليعيد الاختبار حتى يحصل على الابتعاث إلى الولايات المتحدة وقد اجتاز الاختبار ونجح بتفوق حتى في مادة اللغة الإنجليزية التي كان يرهبها، وفعلاً حصل على البعثة إلى أميركا لدراسة اقتصاديات البترول حسب رغبته، إلا أن المسؤولين بالوزارة اجبروه على دراسة علوم الأرض (الجيولوجيا)، وسافر إلى الولايات المتحدة وكان ذلك في نهاية صيف 1962م. قال إن المحطة الرئيسية لإعداد الطلاب السعوديين لإكمال دراستهم الجامعية في الولايات المتحدة الأمريكية هي مدينة أوستن – تكساس، إذ عقد الملحق الثقافي السعودي اتفاقاً مع مكتب الطلاب الأجانب في جامعة تكساس في أوستن، وقال: «.. وهناك من ابتعثوا قبل ذلك إلى جامعة تكساس في الفترة التي كان فيها المهندس عبدالله الطريقي مسؤولاً عن شؤون البترول ومن بينهم: عمران بن محمد العمران، وسليمان بن عبدالله القاضي، وسمير حسن.. وغيرهم، وتتابعت البعثات بعدهم، وكانت بعثتنا هي الرابعة والأكثر عدداً، إذ ضمت نحو خمسين طالباً كما ذكرت». صار من حظه أن يشاطره السكن وأجرة الشقة زميله الذي سبقه غازي هاشم سلطان وهو يحضر الماجستير ويتقن الطبخ الحجازي. فاتفقا على أن يتولى الجعفري غسل الصحون شريطة أن يعلمه غازي الطبخ. لم تظل زمالته لغازي.. إذ نجح في الرياضيات واللغة الإنجليزية فقل طالباً منتظماً في جامعة واشنطن في سياتل. ووجد عدداً من السعوديين بالجامعة أربعة هو خامسهم، انتقل في السنة الثانية إلى كلية كولومبيا السفلى بتوجيه من المرشد الأكاديمي، وتعرف على أسرة (لانفير) التي تحب العرب وتكره اليهود. إذ أن أمهم قد زارت القدس ومصر وعادت بانطباع سيئ عن الإسرائيليين، وكان دليل الفريق السياحي ينصحهم بعدم الشراء من العرب، وكان عيد الميلاد بعد أيام فاقترحت عليه زيارتهم في قرية ليست بعيدة عن المدينة (لونج فيو)، قضى العطلة بينهم، وعرضوا عليه الانتقال والسكن معهم مرحبين به بدون أجرة، ولكونه قد ارتاح للسكن ولهم فقد اتفق على أن يتحمل 90 دولاراً في الشهر، وقد استفاد من سكنه معهم في تحسين لغته الإنجليزية. بقي مع الأسرة حوالي سنة، وبعد انتقال زميله صالح الزامل إلى لونج فيو اضطر للانتقال للسكن معه. وقد شارك في جمعية الطلاب العرب وأصبح مسؤولاً عن النشاط الاجتماعي، الذي يركز على التعريف بالقضية الفلسطينية، والتعارف بين الطلاب العرب والمجتمع الأمريكي، وإقامة حفل سنوي يسمّى (الليلة العربية) لتقديم بعض الأكلات العربية، والرقصات الشعبية مثل (الدبكة) ورقصة العصا المصرية. وبدأوا يحضرون الحفلات والأعراس العربية، فقابل من ستكون زوجته مستقبلاً، والتي كانت ترافق امها كاثرين البيطار وأخاها داود وكيم، وقدمت الأم ابنتها له قائلة: هذه ابنتي اليزابيث ونطلق عليها (لز). وقالت والدتها عن أصل أسرتهم: أهلي من مدينة طرابلس، من أسرة البيطار، أما زوجي فهو من أسرة وكيم من زحلة. نحن سوريو الأصل.. وعرف أنهم يسكنون في (كاسل روك) بالقرب من لونج فيو – واشنطن. وعندما اقترح المستشار الأكاديمي أن انتقل للدراسة في كلية كولومبيا السفلى، وأبقى في الجامعة لتحسن معدلي التراكمي، استحسن الانتقال المؤقت وذلك لشعوره بأن هناك من يعرف تلك المدينة. وقد شعر بأن ابنتهم (لز) تتابعه بنظراتها في الحفل مع ابتسامة أسرته، فأحس بأن هناك من سيزيل وحشته في تلك المدينة. وكانت الأسرة تمتلك محلاً لبيع الملابس، اتصل بهم ورحبوا بزيارته، التي بدأت بتعلق الفتاة به، وفاتحته برغبتها بتغيير دينها إلى الإسلام، فشرح لها مبادئ الإسلام خلال عدة زيارات. وفي أحد الأيام هاتفته برغبتها بلقائه، فرحب بها، فقالت إنها ترغب في النطق بالشهادتين واعتناق الإسلام. وبدأ يلقنها الشهادتين وهي تكررها بعده وكان ذلك خريف عام 1965م. عاد للمملكة يحمل صورتها وأبدى لوالديه رغبته في الزواج بها، فوقع الخبر على الوالد وقع الصاعقة، خشي أن يبقى معها في أمريكا. سافر مع والديه إلى لبنان لعلاج شقيقته إيمان فوجد الفرصة مواتيه بعد أن استمال والدته إلى جانبه أن تقنع والده، وبعد أخذ ورد كان جوابه: (كما تشاء) واعتبرها موافقة على مضض. وفي شهر يونيو عام 1967م عقد الزواج الشرعي في حفل صغير مع الزملاء العرب في مدينة سياتل، انتقل بعد زواجه إلى سكن الجامعة الخاص بالمتزوجين، وبعد سنة تخرج في جامعة واشنطن، فذهب بزوجته إلى جنيف وبحيرتها الشهيرة ليحتفلا بشهر العسل المؤجل، مرا بيروت ومنها إلى مطار الظهران. استقبل من بعض الأقارب بحفاوة فاجأت زوجته، وسكنا في منزل خاله ثم ابن عمه، وبدأ يبحث عن العمل بحكم أنه متخصص في الجيولوجيا. ذهب لأرامكو، فقالو أنهم ليسوا بحاجة إلى جيولوجيين. ثم ذهب إلى فرع وزارة البترول والثروة المعدنية بالظهران، فطلبوا الانتظار لستة أشهر حتى صدور الميزانية. ذهب لزيارة كلية البترول والمعادن مع بداية تأسيسها فقالوا لا يلزمنا جيولوجيين، ولكن عندنا أربع وظائف معيدين ابتعث اثنان جيولوجيان، وبقي وظيفة إدارية شاغرة هي مساعد إداري لعميد الكلية، ذهب لمقابلة العميد الدكتور صالح عبدالقادر أمبه، فقال له بعد الترحيب به: جيولوجي وقبلت عملاً إدارياً؟ لماذا؟ قال له: الحاجة، فقد ذهبت إلى أرامكو فاعتذروا. قال له: الأمريكيون لا يريدوننا أن ندخل في الأمور الفنية من عمل الشركة، حتى هذه الكلية يحاربونها. بدأ العمل في عمادة شؤون الطلاب، وبعد ستة أشهر عمل في مكتب العميد، وفي مارس 1969م نورت حياتهم ابنتهم الأولى (دنيا) فوجدها فرصة للسفر للرياض فلعل دنيا تشفع له أمام والده الذي مازال معارضاً زواجه. اصطحب زوجته وابنته وقال: «.. ودخلنا على والدي في غرفته، وانكببت على رأسه ويده أقبلهما، وسلمت عليه زوجتي وقبلت رأسه، وقدمت له حفيدته (دنيا) وكانت في شهرها الثالث، تلك أول مرة يرى فيها زوجتي، ملامحها العربية أول ما لفت انتباهه، تابعت نظراته لها وهو يتفحصها، تبين له أن ملابسها ومظهرها ليس نشازاً بين أخواتي وأمي، فظهرت علامات الرضا..» ص190. وبعد شهرين زارهم والده في منزلهم في كلية البترول والمعادن بالظهران.. واستمر التزاور بينهما. ابتعث للدراسة العليا، لدراسة الماجستير في جامعة شرق ولاية تكساس، واستقر في مدينة كوميرس – تكساس. فرزقا بابنتهما الثانية (دينا). واختار جامعة أوكلاهوما في نورمان بعد التشاور مع الصديق عبدالعزيز المنقور، الملحق التعليمي آنذاك. فتحول إلى كلية إدارة الأعمال. عاد للمملكة صيف 1973م فزار كليته التي اصبحت (جامعة البترول والمعادن) وأصبح مديرها الدكتور بكر عبدالله بكر، وتداول معه فكرة تغيير دراسة الدكتوراه من حقل التعليم العالي إلى حقل إدارة الأعمال، فشجعه على تغيير التخصص لأن الجامعة بحاجة إليه. عاد لأمريكا. وسمع أن والده يعاني من آلام في الصدر، فقرر العودة إلى المملكة لزيارته، وعلم من الطبيب أنه يعاني من تضخم في شرايين القلب، فعرض على والده السفر معه إلى أمريكا للعلاج. فوافق. وبعد العلاج لم يعد يشعر بالآلام، وبعد مدة اصبح يشتكي من ألم في الصدر، وفي المستشفى تطورت الحالة إلى أزمة قلبية، فعرفوا أنه أصيب بجلطة فقد فيها الإحساس بجانبه الأيسر، فأصبح يتناوب مع زوجته على مرافقته طوال مدة بقائه بالمستشفى، وعاد للمملكة وهو يعاني الشلل، وتوفي إثر أزمة قلبية بعد عودته بستة أشهر في 29 يوليو 1975م، وكان المتوفى رقم واحد في مستشفى الملك فيصل التخصصي في الرياض. عاد لأمريكا لنيل شهادة الدكتوراه، ولا بد من إعداد خطة البحث، ولا بد من تخطيط عملي، فعرض عليه استاذه في الكلية تدريس مادة مبادئ الإدارة فتردد، درّس لفصلين دراسيين فكانت نتيجة تقييم الطلاب لتدريسه مفرحة له ولأستاذه، فاختار موضوع (المقارنة بين تأثير الفكر الإداري الأمريكي والفكر الإداري الفرنسي على الشركات الصناعية في المملكة العربية السعودية والجزائر) عنواناً لأطروحته، فلا بد من زيارة الشركات المعنية في البلدين، وكان يعتقد أن السيد أحمد غزالي رئيس شركة سوناطراك الجزائرية سيساعده في إجراء البحث في الشركات الجزائرية لسابق معرفة به عند زيارته ومرافقته له لشركتي أرامكو وسافكو، وعند زيارته بمكتبه بالجزائر بقي ينتظر الدخول إليه لثلاثة أيام، ولقى من أعطاه صورة لا تشجع، فغادر الجزائر إلى أمريكا فعرض على استاذه صعوبة الحصول على الدراسات المطلوبة فاتفقا على تغيير الموضوع إلى دراسة شركات في دول الخليج العربي، وأن تكون عن قياس النظام الإداري في الشركات العاملة في مجال البترول والبتروكيماويات في منطقة الخليج العربي. عاد للمملكة فوجد تشجيعاً ومؤازرة من الدكتور غازي القصيبي فكتب معه ثلاث رسائل مغلقة لمسؤولين في الكويت والبحرين سهلت له الحصول على ما يريد، عدى مدير شركة أبو ظبي الوطنية، التي لقي منها ما لقي بالجزائر، وكان ذلك المدير جزائرياً أيضاً. عاد إلى كليته الصغيرة التي كان عدد طلابها ثلاثمائة طالب، وقد اصبحت جامعة يزيد عدد طلابها على ستة آلاف طالب، وعدد مبانيها (24) مبنى، وكانت مبانيها في السابق أربعة فقط، واسمها جامعة. وفي عام 1986م اصبحت تسمى (جامعة الملك فهد للبترول والمعادن). عين بعد عودته في كلية الإدارة الصناعية بمرتبة استاذ مساعد، وكلف بدراسة تأسيس مدارس جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، وقال: « من الأخطاء الشائعة في جامعاتنا تعيين خريجي الدكتوراه الجدد في مناصب إدارية قبل أن تتطور قدراتهم التدريسية والبحثية، وقبل ممارسة العمل الأكاديمي في تطوير المناهج... ويغتر بعضهم ببهرجة المنصب الإداري فيغفلوا عن المهمات الأساسية للجامعة ألا وهي التدريس والبحث العلمي وخدمة المجتمع...» ص250. وفي هذه الأثناء يرزق بابنه (خالد)، ويكلف بتدريس مادة (الأعمال باللغة العربية)، ويزور جنوب المملكة لمرافقة الأمير سلطان، ويتولى رئاسة برنامج ماجستير إدارة الأعمال وتحديثه، ثم يصبح عميداً لكلية الإدارة الصناعية، وقال وهو يغادر الجامعة مشيداً بمن تركوا بصماتهم: أحمد زكي يماني، صالح أمبه، بكر عبدالله بكر، ولم يذكر عبدالله الطريقي رغم أنه صاحب فكرة تأسيس الكلية أثناء قيامه بعمل وزير البترول والمعادن 60-1962م. وهو يعتز بأنه جندي من الجنود الذين عملوا بتفان وإخلاص في تطور صرح من صروح التقدم العلمي في هذا الوطن الغالي. عمل بعدها أميناً عاماً لمنظمة الخليج للاستشارات الصناعية بقطر لعشر سنوات أخرى، وبعدها عضواً بمجلس الشورى لثلاث دورات، ثم محافظاً لهيئة الاتصالات وتقنية المعلومات، ثم التقاعد. لقد استمتعت بهذه الصفحات التي تمنيت ألا تنتهي رغم أنها في (446) صفحة. متمنياً لصاحبها الصحة والعافية.

مشاركة :