قراءة نقدية في ديوانه «لا ينتظر الورد طويلاً في الشرفات»

  • 6/19/2021
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

على الرغم من أن شعراء السبعينات هم أكثر الأجيال الشعرية صخبًا وأعلاهم نفيرًا وأغزرهم إنتاجًا وترسيخًا لقيم القصيدة التفعيلية بشكلها الحداثي -الذي لايزال سائدًا على الساحة الأدبية- إلا أننا نلمح رغم هذه السطوة الظاهرة لهم حزنًا وانكسارًا كبيرين تكلل بهما عرش هذا الجيل من الشعراء، فولادته جاءت مأزومة ومهزومة ومحملة بانهيار أحلامهم القومية الكبرى، خاصة بعدما لعقوا مرارة النكسة القاسية في 1967، هذا الجيل عانى من قسوة الانتظار وانشطر وتشظى وعايش القلق والخوف، ومات ألف مرة وهو يترقب لحظة النصر، لحظة استرداد الكرامة الوطنية والقومية، لحظة التوازن والاتزان على قدمين ثابتتين، وحينما أتت تلك اللحظة لم يفرح بها طويلاً، فقد اصطدم برغبة القيادة السياسية في التحلل من كل أهداف ثورة يوليو والانسلاخ من عباءة عبدالناصر بأحلامه الاشتراكية والقومية، رأى سياسات الانفتاح الاستهلاكي التي قلبت موازين المجتمع رأسًا على عقب، شاهد السادات وهو ينتقل من معسكر إلى آخر بيسر وسهولة، وعاين بعينيه كيف أصبحت إسرائيل صديقًا وحليفًا، وبرغم أننا لسنا بصدد تقييم كل هذه الأحداث أو الحكم عليها، لكننا مضطرون لسردها كأحداث مثلت هزات عنيفة ومزلزلة أحدثت انشقاقات وتصدعات هائلة داخل نفسية وعقلية هذا الجيل بأكمله، فصار كمن يحاول التوازن وهو ينجرف في طوفان عظيم، وفشلت محاولاته في التأقلم بين ما يعتقده وبين ما يعانيه في واقعه، خاصة وهم يرون جيل الآباء الذين سبقوهم وهم يتساقطون كالأوراق في الخريف ويموتون همًا وغمًا وحسرة كصلاح عبد الصبور وأمل دنقل وصلاح جاهين، وغيرهم الكثير. هذا على مستوى المناخ العام الذي استوى في ظله هذا الجيل، أما على المستوى الخاص فقد كان لكل واحد منهم همومه وشواغله الخاصة التي كان يكابدها ويرزح تحت وطأتها بالإضافة إلى همه العام، وأسامة مهران واحد من شعراء هذا الجيل لكنه لم ينل حظًا من الانتشار والشهرة ولم يحظ باهتمام النقاد والدارسين، ربما لأنه نأى بجانبه وأنف أن ينخرط في شلة من الشلل ذات السطوة والنفوذ الإعلامي، فلم يسلط عليه الضوء لا من قريب ولا من بعيد، والحقيقة أنه ليس وحيدًا في هذه العزلة الإجبارية أو الاختيارية، فقد شاركه فيها كثيرون، أسامة مهران الذي أُرغم على الاغتراب والغربة مرات ومرات، وأجبر على مواجهة مصيره القاهر بصبر وثبات وبذاتٍ لا تستند على الآخرين، صاحب نفس عصامية تعتد بجلدها كأبطال الأساطير، فيظلون أبطالًا وإن هُزِمُوا، وتحتفي بهم الشمس والرياح وإن تكبدوا الخسارة تلو الأخرى لأنهم أصحاب إرادة ومبدأ وعزيمة ترفض الاستسلام والقهر، لذلك اختزن كل أوجاعه وهمومه عبر خمسين عامًا من الرصد والتأمل والتفاعل ليحدثنا بها شعرًا في عشرينيات الألفية الثالثة عبر ديوانه «لا ينتظر الورد كثيرًا في الشرفات». حرص أسامة مهران على تزييل كل قصائده بتواريخ كتابتها، وهذا الحرص له العديد من الدلالات الإشارية، فربما أراد أن يلفتنا إلى أهمية ربط القصيدة بظرفها الزماني، وربما أراد أن يؤكد على سبقه الاستشرافي في رؤية المستقبل بما يؤكد قدرته الإبداعية على التنبؤ فكان التأريخ شاهدًا ودليلًا لا بد منه للتأكيد على ذلك، وربما كانت النوستالجيا والحنين إلى الماضي هي دافعه إلى ذلك، غير أنني أقرأ في هذا الحرص على التأريخ شيئًا آخر يخص الحالة المزاجية والإبداعية لشاعرنا، فهو يشير إلى فترات الغزارة الإبداعية والحيوية والتدفق الشعري لديه والتي بلغت ذروتها في عام 2012 بثلاث عشرة قصيدة داخل الديوان ثم في عام 2020 بخمس قصائد، وهذا ما يتأكد أيضًا من خلال قراءة ديوانه «حد أدنى» الذي يحفل بالكثير من النصوص الشعرية التي كتبت في عام 2012، كما أن هذا التأريخ يشير أيضًا إلى فترات الندرة والانصراف عن الكتابة. ومن الغريب والمدهش أن المناخ والطقس لهما أثر بالغ على الحالة النفسية والمزاجية وعلى استحضار لحظة الكتابة لدى شاعرنا، فمن بين قصائد ديوانه الذي اشتمل على اثنتين وثلاثين قصيدة، نجد أربع عشرة قصيدة كتبت في فصل الخريف، وثماني قصائد كتبت في فصل الربيع، وست قصائد كتبت في فصل الشتاء، بينما كتب في فصل الصيف أربع قصائد فقط، واستأثر شهر سبتمبر بمفرده -وهو مقدمة الخريف- بثماني قصائد، ما يعني أن مزاج شاعرنا مزاج خريفي، هو كالأشجار تقف لتتأمل نفسها وما حولها في موسم الرياح وتساقط الأوراق والمساحيق، هو يؤمن بالتجريد ويسعى إلى وضوح الرؤية دون إكسسوارات خادعة أو أقنعة مزيفة، هو يعمد إلى الحقيقة النفسية والتاريخية التي يؤمن بها، والتي كافح من أجلها وشقي بها أيضًا، هذا المزاج الخريفي بما يعبر عنه من نهاية وشيكة أو بداية قريبة هو الذي بعثه أن يصدر ديوانه الأول بعد توقف كبير وتأخر كثير وتأجيل مطوّل، هذا المزاج هو دال فكري وأيدلوجي بالنسبة لشاعرنا المهاجر دائمًا والمتأمل أبدًا وهو يقر بذلك في قصيدته «تغريدات خريفية» إذ يقول: أرجوكِ لا تؤاخذيني /‏ على تصحر الشبابْ /‏ ودفقة الغروبْ /‏ فما تجاعيد الخريفِ /‏ غير منظرٍ لعوبْ /‏ غير لونها المُهابْ /‏ لا تؤاخذيني على الغيابْ /‏ فكم توحشت بلا فريسةٍ /‏ وكم تعملقت على مستبسلٍ /‏ وضربتُ أمثلةً لكلِ مقبلٍ /‏ على الذهابْ /‏ وكل مدبرٍ من الإيابْ. جاء أيضًا عنوان الديوان وقصيدته الأولى«لا ينتظر الورد كثيرًا في الشرفات» اختيارًا معبرًا على هذا المزاج الخريفي في واقعية سحرية صادمة، فالورد بما له من أثر على استحضار البهجة والسعادة في النفوس لا يبقى على نضارته وحيويته طويلًا، فغالبًا ما يزوي ويذبل ويموت مهما تمتع بالضوء والشمس، وهنا يتحول الورد إلى معادل موضوعي للشاعر ولأحلامه وطموحاته في قسوة تتشح بالرقة، وفي رقة تصطدم بالموت، هذه الحقيقة الوجودية تعبر عن حزن غائر وعميق في نفس الشاعر الذي عرف وانكشفت أمامه الحقائق في تجردها إذ يقول: لا أنتظر النظرة منهُ /‏ أو إطلالة عينٍ منكِ /‏ أو غيبٍ منفلتٍ /‏ أو جناتْ /‏ فكفانا عزفًا منفردًا /‏ وكفانا خرفًا متقدًا /‏ وكفانا تبغًا من دون لفافاتْ /‏ فالوردُ هو الوردُ /‏ ولا ينتظر كثيرًا في الشرفاتْ. لا يعبأ الشاعر بغير تلك الحقيقة الوجودية المؤلمة بعدما غُرِّبَ وتَغَرَّبَ، بعدما فقد كل ضمانات الأمن النفسي والأمان العاطفي من حبيبة وأهل ووطن، من رفقة يروون ظمأ روحه ويضمدون جراح نفسه، ليفاجئنا بأن ما يبهرنا في مظهره الخارجي يحمل في داخله بركانًا يلتهم فكره وأعصابه لذا يقول واصفًا نفسه: مزدهرٌ في عُشٍ مجنونْ /‏ ألقٌ يتكلس فوقَ فتونْ /‏ ببقايا سنبلةٍ تتملق ساقًا /‏ وتغازل ترياقًا /‏ وتغادر في يوم حصادْ /‏ هل فينا ما يمنع طرحًا /‏عن يومٍ تولدُ فيه الأحقادْ؟ /‏ يتنحى فيه الوالي/‏ الصالحُ عن شغبِ الأولاد؟ /‏عن أرضٍ لا تنبتُ بركانًا يتحلى بالصمتِ وبالأوغادْ؟ هنا تبرز القدرة الإبداعية العجيبة لدى شاعرنا على التركيب والبناء في إدهاش ممتع وتصوير مدهش يعبر عن آلام الشاعر وفكره، ويحول مشاعره وما يعتمل في نفسه إلى صورة بديعة وجديدة نراها بأعيننا ونناقش تفاصيلها بعقولنا حين يقول «ببقايا سنبلةٍ تتملق ساقًا /‏ وتغازل ترياقًا /‏ وتغادر في يوم حصادْ»، وبرغم روعة الصورة وجدتها إلا أنها تعد صادمة في علاقاتها تمامًا كحياة الشاعر، فالسنبلة التي تتملق الساق وتنافقه لأنه يحملها، تتطلع إلى خلاص وانعتاق من محنتها فلا تجد إلا موتًا ورحيلًا ينتظرها في الحصاد. انكسارات أسامة مهران مزدوجة لأنها تكتسي ببعدين: أحدهما عاطفي والآخر وطني وقومي، فالحبيبة عنده هي الوطن، والوطن عنده هو الحبيبة الأولى، لذا حين يحدثنا عن حبه يرجع إلى بدايات الطفولة الأولى ليعكس لنا قدم ذلك الحب في نفسه وذاته، ويكشف لنا في صدمة مذهلة أن تلك المحبوبة دائما ما كانت تخذله، وتأمل معي قوله من قصيدته التي عنونها بعنوان وجودي «أكون أو لا أكون»: قد كنتُ بآخر صفٍ في مدرسةٍ أخرى /‏ قد كنتِ بميمنةٍ في الفصلْ /‏ وأمانيكِ ما عادت تجدي /‏ والأحلام الكامنة بوجدي/‏ تصطفّ وتصطفْ /‏ ما كان غرامي إمعةً /‏ أو كان غرامكِ فرقعةً /‏ أو كنا جوقةَ جُندٍ في العزفْ /‏ قد كانت كتفكِ في كتِفٍ آخرَ /‏ لأكونَ المخزيَّ الأولَ /‏ وأكون المهزومَ الألفْ. انكساراته قديمة لكنها حاضرة كجرح غائر لا زال ينزف في وجدانه وذاكرته، فها هو يرثي جمال عبدالناصر في قصيدته «رحلة إلى ملكوت الأب» التي أرّخ كتابتها بعام 2014، وهي قصيدة ملحمية مطولة استخدم فيها تقنيات المسرح الشعري في استحضار المشهد بكل تفاصيله وظلاله، ليؤكد لنا أنها قصيدة مؤجلة لحزن قديم يعيد بها طزاجة لحظة الفقد في ثنائية الانكسار المزدوج فالقائد هو الأب، والزعيم هو الوالد، وهذا يعكس فداحة الفقد واقترانه باليتم والضياع إذ يقول: في غمضة عينٍ رحل الأبْ /‏ بسرعة عصفورٍ أنهكهُ نبضُ المشوار الصعبْ /‏ انطفأت ضوضاءُ الشارعِ إيذانًا بترجل شعبْ /‏ كان الأفق مليئاً بشظايا محترقة /‏ وعذارى منتحرة /‏ وبقايا منتشرة /‏ وغنائم حربْ /‏ كاد الرجل يودّعُ أُمتهُ /‏ بعد رحيل الضيفْ /‏ كانت شمس الحريةِ توشك أن تتباعدَ /‏ مثل رحيق الصيفْ /‏ تبت أيدي من ترك المعجزة الكبرى لتموتْ. الهم العام إذن والقضايا القومية تحتل المكانة الأولى في سلم الأولويات لدى أسامة مهران، فهي بمثابة شواغله اليومية الخاصة برغم ما تلقيه على كاهله من هزائم وانكسارات نفسية تتحكم في مزاجه الشخصي وتجعله يتوحد معها، فها هو يعيد إلى أذهاننا بعد مرور سنوات كثيرة مشهد رحيل ياسر عرفات في قصيدته «من تحت الأنقاض» التي كتبها في أكتوبر 2012، وهو يرسم لنا تفاصيل مشهد الوداع بعين سيناريست بارع أو بكاميرا مصور محترف يعرف قيمة التفاصيل، ثم يعود ليتوحَّد مع الزعيم الراحل في أنفاسه الأخيرة ويستبطن آلامه وأحزانه فيتحدث بلسانه ليقول: كان الرجل يحاول أن يهمسَ /‏ في أذن الأصحابِ /‏ ببعض حروف لا يفهمها /‏ طبيبُ الغرفةِ /‏ فالعمر المتبقي ينظر للرفقاءِ /‏ بعين الرأفةِ /‏ كانت لحظاتٌ ويغادر كل الأخوةِ /‏ نحو الشرفةِ /‏ ليتابع أكثرهم عشقًا /‏ أنفاسَ الشارع بعد رحيل الموكبِ /‏ أو قبل خروج الروح من الأسرْ /‏ قلت: خذوني مخدع أمي /‏ كي أتحرر من أسمائي/‏ كي أستوطن حضنًا آخرَ. اشتمل الديوان على اثنتين وثلاثين قصيدة، ومثل سباحة حرة للخلف من حيث التاريخ. اتسم أسلوب شاعرنا أسامة مهران بقدرته الفائقة على السرد الشعري الآسر والمعبر عن أفكاره ومشاعره في حرفية كبيرة تبتعد عن الصنعة وتقترب كثيرًا من التلقائية التي تقتحم نفس المتلقي وتسيطر عليه، كما استعان في كثير من قصائده بالدراما الشعرية التي تسهم في تنامي المواقف والمشاعر، وأعتقد اعتقادًا يصل إلى حد اليقين أن أسامة مهران قارف المسرح الشعري وكتبه وربما يفاجئنا بإسهام فيه، وأظن وليس كل الظن إثم أن شاعرنا أعاد اكتشاف ذاته وبعث أدواته الشعرية من ثبات عميق عقب ثورة يناير 2011، فغزارة إنتاجه الشعري بعد هذا التاريخ تشي بذلك، لذا ارتأيت أنها قصائد مؤجلة تعبر عن نهم كبير في استعاضة ما فات، وهي عودة رائعة نحمدها له، ونهنئ الشعر الحقيقي بعودته كأحد الفرسان الكبار الذين ننتظر منهم الكثير، فمرحى بخيول شعره الأصيلة وهي تعدو بقفزاتها الكبيرة في مضمار الإبداع والتميز.

مشاركة :