بين حين وآخر تغير الطائرات الإسرائيلية على قطاع غزة بدعوى إطلاق صواريخ منها نحو المستوطنات في الجانب المغتصب، وتزداد حدة الغارات كلما بلغت الصواريخ الفلسطينية مدى أبعد، وفي الغالب تتهم إسرائيل قوى غير حماس بإطلاق الصواريخ، لكنها توجه ضرباتها إلى مواقع لحماس أو سلطتها في قطاع غزة تحت عنوان الردع أو إيصال رسالة. رغم أن الغارات وإطلاق الصواريخ باتا جزءاً من قواعد اللعبة بين إسرائيل والمقاومة في قطاع غزة إلّا أن التجربة بينت أن التحكم بوتيرة اللهب كانت صعبة أحياناً. وللدلالة، هناك الحرب الأخيرة التي استمرت 51 يوماً والتي انزلق إليها الطرفان من دون رغبة شديدة، ولم تحقق لإسرائيل الغايات التي تطلعت إليها كما لم تنجز للفلسطينيين هدفاً سوى تأكيد الصمود. والحال أن الغارات الإسرائيلية على قطاع غزة، وكذلك إطلاق الصواريخ من القطاع نحو المستوطنات، تعتبر جزءاً من استراتيجية إدارة الصراع القائمة حالياً، فحكومة نتنياهو التي تعرقل العملية السلمية وتريد الاستمرار في ترسيخ وفرض وقائع تدريجية على الأرض في الضفة الغربية، ترفض أيضاً إنجاز اتفاقات بشأن قطاع غزة. ورغم الحديث مراراً وتكراراً عن وسطاء ودول من أجل إنجاز اتفاق هدنة طويلة الأجل في القطاع إلّا أن النتائج كانت صفراً حتى الآن، لسبب بسيط، وهو ذلك الترابط الموضوعي القائم بين الضفة والقطاع. ومعروف أن إسرائيل مرتاحة جداً للانقسام القائم بين الفلسطينيين، سواء بجانبه الجغرافي بين الضفة والقطاع، أو السياسي بين فتح وحماس أو بين نهج المقاومة ونهج المفاوضات، وتنبع راحة إسرائيل من واقع أن أياً من النهجين المعتمدين في الجانب الفلسطيني يعجز وحده عن تحقيق أهدافه، فنهج المقاومة يعيش في ظروف حصار إقليمي متصاعد، وإن كان قادراً على توفير إحساس ما بالكرامة، فإنه عاجز على الأقل عن تلبية احتياجات مليونين من الفلسطينيين القاطنين في القطاع والإحساس بالعيش الكريم وحرية التنقل. وبالمقابل فإن نهج المفاوضات يجد نفسه أسيراً لدى ما يسمى بالشرعية الدولية التي تبقى محكومة بتوازنات قوى عالمية، ليست حالياً في صالح الفلسطينيين ومن دون أن يمتلك بنفسه أوراق ضغط كالمقاومة. وليس صدفة أن حماس في غزة صارت تبحث عن حلول وسط سواء مع السلطة في رام الله أو مع وسطاء إقليميين ودوليين من أجل إيجاد حلول معيشية مؤقتة لسكان القطاع، وقد قيل الكثير في ذلك سواء لجهة الاتهامات بالعمل على إنشاء إمارة صغيرة، وتقسيم القضية الفلسطينية أو من أجل استخدام القطاع كرافعة لتحرير كل فلسطين، لكن كان هذا التوجه عنواناً عن إحساس بمأزق، وأن البحث عن تسوية له ليس فيه ما يضر. كما أن الإنذار النهائي الذي حمله خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس في الأمم المتحدة، والذي تلخص في الاستعداد لحل السلطة وإعلان فلسطين دولة تحت الاحتلال ودفع إسرائيل لتحمل مسؤولياتها يحمل أيضاً ذات الإحساس بالمأزق، وتعرف السلطة الفلسطينية أنه حتى لو نالت قراراً أممياً بالاعتراف بفلسطين دولة على حدود 1967 فإن ذلك لن يغير كثيراً من الواقع القائم على الأرض، وسوف يضطر الفلسطينيون حينها للعودة للمقاومة، وكأن ليس هناك قرار دولي يعترف بفلسطين. في كل حال ليس مفاجئاً أن المأزق الفلسطيني العام خلق الحالة الراهنة في القدس والضفة الغربية، وهي هبة مرشحة لأن تندفع نحو انتفاضة شاملة. وبعودة قليلة للوراء يمكن بسرعة اكتشاف أن ما يُجرى اليوم يشبه كثيراً الظروف التي سبقت الانزلاق إلى حرب 2014 على قطاع غزة، حينها اشتعلت الضفة الغربية بعد خطف واستشهاد محمد أبوخضير وكعادتها انضمت فصائل للمشاركة في إطلاق صواريخ على إسرائيل، ضمن منطق الضفة ليست وحدها، فأرادت إسرائيل إسكات المقاومة في القطاع بطريقة تردع الضفة عبر تشديد الغارات فكانت النتيجة حرباً. ولأن إسرائيل لا تملك استراتيجية غير إدارة النزاع، ولا تسعى إلى غير ذلك، وربما لاعتبارات إيديولوجية وائتلافية، فإن السيناريو معروف، وقد تكرر على الأقل في السنوات الست الأخيرة ثلاث مرات، ورغم اختلاف النتائج في كل مرة عما سبقها إلّا أن الصورة الإجمالية كانت واحدة: إسرائيل تبحث عن ردع أساسه حصيلة الدم والدمار، وغزة تبحث عن صمود ومنع العدو من تركيعها. ومن الجائز أن الأوضاع اليوم مرشحة أكثر من أي وقت مضى لتكرار المشهد والسيناريو، فغزة تعيش أوضاعاً صعبة وقيادة المقاومة في غزة التي سبق لها أن جربت استراتيجية اختراق الحصار بالقوة، تجد نفسها اليوم في وضع أكثر وضوحاً. فمن ناحية تبدو الهبة في الضفة الغربية وكأنها نصرة للأقصى ومنع تدنيسه أكثر من أي شيء آخر، وتلعب حماس والفصائل الإسلامية في الضفة الغربية دوراً كبيراً في تحشيد الجمهور ضد المخططات الإسرائيلية لتقسيم الأقصى زمانياً، كما أن نشطاء الفصائل الإسلامية في الضفة والذين يعانون ملاحقات إسرائيل والسلطة الفلسطينية ينشدون الدعم من غزة. وإذا أخذنا بالحسبان واقع أن إسرائيل أفلتت سوائب المستوطنين في أنحاء الضفة لمهاجمة القرى والأحياء وأعادت إقامة الحواجز وقررت توسيع الاعتقالات الإدارية فإن الوضع في الضفة مرشح للتصعيد بشدة، وقد بدأت سلطات الاحتلال بأوسع حملة اعتقالات في الضفة الغربية في محاولة لتهشيم ما تعتقد أنه بنية تحتية للمقاومة هناك، حيث استهدفت بشكل أساسي من كانوا معروفين بانتمائهم إلى فصائل إسلامية كحماس والجهاد الإسلامي، لكن الاعتقالات صارت تطال حتى نشطاء تابعين لحركة فتح من دون الحديث عن فصائل وطنية أخرى كالجبهتين الشعبية والديمقراطية، وكل هذا يشكل عوامل ضغط على قطاع غزة للمشاركة في الهبة بالطريقة المألوفة وهي إطلاق الصواريخ. وتقريباً فإن نشطاء وقيادات من الفصائل الفلسطينية في القطاع لا يترددون في إطلاق التهديدات والتأكيد أن معركة الأقصى هي معركتهم، وقبل أيام، وفي رسالة لافتة في القطاع، وزع الإعلام الحربي لحركة الجهاد الإسلامي شريطاً تحت عنوان بيان رقم واحد يوحي بأن الرد على جرائم إسرائيل قادم. ويمكن الافتراض أن هذا أيضاً هو حال الجناح العسكرية لحركة حماس، كتائب عزالدين القسام، وأيضاً حال كل الأذرع المقاومة. وبديهي الاعتقاد بأن الأيام القليلة المقبلة وتطورات الأوضاع في الضفة الغربية ستحدد وجهة الأمور في القطاع، فخلال أقل من أسبوع أطلقت الصواريخ من القطاع باتجاه مستوطنات إسرائيلية وصولاً إلى أسدود، ورغم الاعتقاد بأن جهات سلفية تقف خلف إطلاق هذه الصواريخ إلّا أنها تحمل ل إسرائيل رسائل من جميع الفلسطينيين في القطاع بأن غزة مع الضفة الغربية في قضية واحدة وصراع واحد، وهذا ما بدا من ردة الفعل الداخلية على إطلاق الصواريخ إذ لم تصدر السلطة هناك بيانات إدانة، ولم تهرع لاعتقال المطلقين، فهذه الصواريخ، خلافاً لمرات سابقة، لا ترمي لإحراج حكم حماس بقدر ما تعبر عن مزاج في صفوف المقاومة. ويبدو أن خلافاً جوهرياً في إسرائيل قائم الآن بين المستويين السياسي والعسكري حول سبل التعامل مع التصعيد الحادث، فالقيادة السياسية، ومن منطلقات إيديولوجية، تطلق تهديدات وتتخذ خطوات تصعيدية، لكن القيادة الميدانية في المؤسسة الأمنية من جيش وشرطة وشاباك تحذر من هذا التوجه وتطالب بوقف مسلسل التصعيد لتجنب خروج الأمور عن السيطرة في الضفة والقطاع على حد سواء، وليس مؤكداً ما ستكون عليه الوجهة الحقيقية لإسرائيل. لكن في كل حال من الطبيعي الافتراض أن استمرار الهبة الوطنية في الضفة وتعاظم مظاهر القمع والتنكيل الإسرائيلية سيقود إلى زيادة تنقيط الصواريخ من غزة نحو المستوطنات، وإذا كانت إسرائيل تكتفي حتى الآن بالإغارة على مواقع فلسطينية فارغة في قطاع غزة فإن الرغبة في الردع ستقود إلى غارات أشد كثافة وأوقع ضرراً، وحينها لا يكون أمام أذرع المقاومة من مفر سوى التصعيد وتكثيف الإطلاقات، وهو ما يمكن أن يقود إلى حرب أوسع وأكثر شمولاً. مع ذلك ثمة حالة جديدة تخشى قوى إقليمية ودولية من تفاقمها، وهي تتعلق بتراكم الأزمات وعواقبها، فالمسألة لم تعد مواجهة التظاهرات في الضفة وازدياد مظاهر المقاومة هناك، ولا في توسع احتمالات الحرب على غزة، ولا حتى في إمكانية تنفيذ السلطة لإنذارها بحل نفسها، وإنما في احتمال انهيار النظام الناشئ في العلاقة الإسرائيلية - العربية، فأحداث القدس وفلسطين عموماً تثقل على العلاقات الإسرائيلية مع كل من الأردن ومصر وتحول دون تحقيق هدف التحالف مع القوى المعتدلة، كما أن تعميق التواجد الروسي في سوريا وتراجع الدور الأمريكي في المنطقة ينبئ باحتمالات مفتوحة على تصعيد أخطر. helmi9@gmail.com
مشاركة :