تأريخنا بين رجال الدين والفلاسفة - د.إبراهيم بن سليمان المطرودي

  • 10/8/2015
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

رجال الدين مفهوم واسع، ومعنى كبير؛ فكل المذاهب والنحل التي نشأت في الإسلام لها رجال دين، تنتسب إلى أفهامهم، وتصدر عنهم، وحديث المقال عن رجال الدين جملة، وليس منصرفا إلى فئة معينة منهم حتى يظن الظان أنني أردت أولئك، وتركت هؤلاء، ومن ثمَّ يفسد الفكرة بالاعتراض الباهت عليها لماذا يخاف رجل الدين من الفيلسوف، ويذهب إلى تجريم منتجه، ويدعو إلى مقاطعته، والتخويف من اتباعه، والأخذ عنه؟ أليس الفلاسفة يختلفون، ويرد بعضهم على بعض، ويُؤيّد فريق منهم وجهة نظر يحاربها فريق آخر، ويقف ضدها؟ أليس الفلاسفة كرجال الدين يبحثون عن الحق، ويتحرّونه، ويبذلون جهدهم في الوصول إليه؟ ما الذي يمنع رجال الدين من أن يسمحوا للناس بالنظر في أقوال الفلاسفة، والانتفاع بما عندهم من صواب؟ لماذا يخاف رجل الدين، والمحامي عن مراد الله تعالى، من طائفة إنسانية ترى البحث المستمر هو وسيلتها الوحيدة في نيل الحقيقة، وكسب السعادة، وتحصيل الفضائل؟ هذه أسئلة افتتاحية، يُراد منها إثارة المياه الراكدة في قضية الفلاسفة في تأريخ ثقافتنا الإسلامية، وهي أسئلة أراها مهمة حين تناول طبقتي رجال الدين والفلاسفة، وإذا كان الناس انشغلوا كثيرا بالعلاقة بين الدين والفلسفة، وسعى كل فريق إلى تأييد رأيه، وتقوية توجهه؛ فأنا أريد نقل الحوار من الدين والفلسفة إلى عالم الأشخاص، وأنظر من خلاله إلى العلاقة المتوترة بين هاتين الطائفتين، فربّما كان ما جرى للفلاسفة، والفلسفة معهم، في تأريخنا من تهميش، وازدراء، واستخفاف، وصدود، واتهام، يعود إلى رجل الدين نفسه، وليس للدين به صلة، ولا له دور فيه. رجال الدين مفهوم واسع، ومعنى كبير؛ فكل المذاهب والنحل التي نشأت في الإسلام لها رجال دين، تنتسب إلى أفهامهم، وتصدر عنهم، وحديث المقال عن رجال الدين جملة، وليس منصرفا إلى فئة معينة منهم حتى يظن الظان أنني أردت أولئك، وتركت هؤلاء، ومن ثمَّ يفسد الفكرة بالاعتراض الباهت عليها، وهو أن الكاتب ينتقد رجال مذهب دون غيره، ويعيب فئة دون أخواتها؛ فالحديث هنا هدفه المقارنة بين طبقتين من طبقات المجتمع المسلم، هما طبقة رجال الدين وطبقة الفلاسفة، والهدف من المقارنة محاولة الكشف عن أكثر هاتين الطبقتين أثرا في توجيه العقل المسلم، وبناء وجدانه. في هذا المقال أحب وضع الدين في ذاته، والفلسفة في ذاتها، بعيدا عن القلم، وحديثه، وأود قراءة تأريخية لرجال الدين والفلاسفة؛ بها أستطلع، ما استطعت، آثار هاتين الطبقتين على المجتمع المسلم عبر تأريخه؛ فالتأريخ شاهد من الشهود، منه نستلهم العبر، ونكنز الخبر، ونعرف بالنظر إليه، والتأمّل فيه، من أين أُتينا، وكيف السبيل إلى الخروج مما نحن فيه، فهو يعرض لنا وجه المشكلة، ومن وسطها نبدأ طريق الحل، ونأخذ الدرب إليه. ربما يتفق الدارسون والباحثون في تأريخ المسلمين، وتأريخ ثقافتهم؛ على أن الفلاسفة هم أبعد الطبقات عن التأثير فيهما، وأقلها فعلا في المجتمع المسلم، وعليه فكل ما جرى للمسلمين من تفرق وشتات وتنابز بالألقاب، وتقاتل وتناحر؛ فليس لهذه الطبقة، المدعوة بالفلاسفة، أي دور فيه، وليس عليها أي مسؤولية تجاه ما جرى في تأريخنا؛ مما تقدم شيء من التذكير به في مقال "الفارابي والمذهبيون". من المهم في ظل مجتمعات تُؤمّن بالتأريخ، وتستقي من تجارب الماضي، وترى ما كان رصيدا لها في النظر والتفكير والتأمل؛ أن تفتش في هذا التأريخ عن أثر الفلاسفة، وترجع في نقدها لهم إلى سجلهم المدوّن؛ فطالما اتخذت الماضي، وما دار فيه، حجة لها في اتهام الطوائف والجماعات والأفراد، فهل كان للفلاسفة دور فيما جرى، وهل كان لهم فاعلية في تكوّن صورة تأريخنا المذهبي الطائفي؟ تنتصب قامة رجل الدين في تأريخ الأمم، ومنها أمتنا الإسلامية، ويظهر أثره بجلاء في توجيه الرأي العام، وأخذه ذات اليمين، وذات الشمال، ولو أجريت استفتاءات عبر التأريخ، تقوم على معرفة أكثر طبقات المجتمع أثرا؛ لاتفقت كلمة العصور على أنه رجل الدين، أيا كان دينه ونحلته، ومذهبه وطائفته، ولا يُغيّر في رأيي من هذا الحكم، ونتيجة هذا الاستفتاء، أن الأمم الغربية في العصر الحديث أجبرت رجل الدين على أن يعود إلى مكانه الطبيعي، ووظيفته المنتظرة؛ فأنا هنا أتحدث عن مجمل التأريخ ومعظمه، ولا يُعدّ هذا التحوّل الحديث شيئا كبيرا، إذا نُظر إليه من خلال الزمن، وجُعلت النظرة فيه مبنية على كميّة المدد الزمنية التي قضاها رجال الدين في توجيه الرأي العام، ورسم خارطته. هذه النتيجة التي يتفق عليها المسلمون أيضا، ويؤمنون بها، ويرونها ميزة لهم، ووساما على صدورهم، هي أيضا مبعث ألمهم، وسبب قلقهم، ومؤجج غضبهم؛ لأن مشكلة كل نحلة، وورطة كل مذهب، هي مع رجال الدين في النحل المخالفة، والمذاهب المناوئة، وهذا ما يجعل شقاء المسلمين، والعنت الذي يُصيبهم، واللأواء التي تنزل بهم، راجعة في معظمها إلى هذه الطبقة، وهي مسؤولة عنها؛ إذ هي أكثر الطبقات أثرا، وأعظمها توجيها، والجماهير تستأسر لها، وتنقاد إلى أقوالها؛ حتى في أذية قُرنائها، وأشباهها في الأديان والمذاهب الأخرى. لا يستطيع المسلمون أن ينسبوا الفُرقة الدينية، والشتات الديني، الذي أخبر عنه النص، وتنبّأ به، إلى غير رجال الدين؛ فهم الذين صيّروا بأفهامهم الأمة ثلاثا وسبعين فرقة، وهم الذين جعلوا اثنتين وسبعين منها في النار، وحكموا على أن نسبة الفلاح الديني في الأمة، هي واحد من ثلاثة وسبعين، فكأن الأمة التي يجري على الألسنة، أنها الأمة المرحومة، يدخل منها في النار، سواء أكان دخوله أبديّا أم وقتيّا، اثنان وسبعون من كل ثلاثة وسبعين، فأين الرحمة حينذاك، وأين الحديث عنها؟ لم يكن للفلاسفة أي دور في هذا المآل، ولم يكن لهم فيه أي فعل، وها هو أبوالحسن الأشعري يذكر أمهات الفرق، ويعددها، ولا يذكر بينها الفلاسفة، وتلك براءة لهم من المشاركة في نسج ذلكم الخلاف الذي صيّر الأمة إلى ما قرأنا عنه في الماضي، ورأيناه في زماننا هذا. يقول الأشعري: "وأمهات الفرق عشرة أصناف: الشيع، والخوارج، والمرجئة، والمعتزلة، والجهمية، والضرارية، والحسينية، والبكرية، والعامة، وأصحاب الحديث، والكلابية" (مقالات الإسلاميين 1/ 65)، وتلك هي إحدى ثمار المقارنة بين هاتين الطائفتين، وهي مقارنة تُبرز لنا المسؤول عما نحن فيه الآن، وتجعلنا ننتظر الحل منه، والدواء من عنده؛ فهو المسؤول، وعليه أن يتحمّل المسؤولية، ولا يتأخر في تأدية واجبه تجاهها، وهذه المقارنة تضعنا أيضا أمام افتراض السؤال التالي: كيف سيكون تأريخنا لو تمكّن الفلاسفة من توجيه الرأي العام، وأُتيح لهم أن يُشاركوا مشاركة فعّالة في صياغة الثقافة، وبناء وعي الإنسان؟

مشاركة :