هارتموت فندريش المترجم الألماني المولود عام 1944 بمدينة توبينغن بألمانيا واحد من المترجمين الذين اعتنوا بترجمة الأدب العربي الحديث إلى اللغة الألمانية وخاصة الأعمال الروائية الجادة والكبيرة لكبار الروائيين العرب، وهو بلا شك همزة وصل بين الشرق والغرب أي بين العالم العربي وألمانيا. هارتموت فندريش الذي تعدى عمره السبعين عاما اليوم يقول في حوار مع دوتشه فيله في مارس/آذار من عام 2016 إنه بدأ الترجمة في عام 1982، بترجمة روايات غسان كنفاني وسحر خليفة، وهذا التاريخ بالنسبة لنا نحن العرب استثنائي، ففي هذه السنة زحفت الدبابات الإسرائيلية على بيروت مما نجم عنه فضول غربي لمعرفة تاريخ وخلفيات الصراع العربي في منطقة الشرق الأوسط كما يسمى. لقد دفع بالأوربيين إلى معرفة وفهم ما يحدث في المنطقة العربية وطبعا يتوجه لفيف من المثقفين إلى الأعمال السردية، باعتبارها مخزونا ثقافيا واجتماعيا وتاريخيا وسياسيا، وهذا بدوره يحيل على علاقة السياسة بالأدب والنشر والانتشار في الغرب، لقد نجحت رواية "عمارة يعقوبيان" لعلاء الأسواني في ترجماتها إلى اللغات الأوروبية ومنها الألمانية في جعل الآخر الغربي يفهم أن نشأة الإرهاب كونه صورة من صور المعارضة، وكذلك رواية "اللجنة" لصنع الله إبراهيم، مع أن أرقام مبيعات ترجمتها إلى الألمانية بائسة والتي تقول إن سياسة الانفتاح هي سياسة البيع. لا يجد الأدب العربي إقبالا واسعا في الغرب بالرغم من أن نجيب محفوظ توج بجائزة نوبل للآداب عام 1988 قياسا إلى انتشار أدب أميركا اللاتينية والجنوبية والشرق الأقصى، وحتى أفريقيا السوداء، حتى إن الناقد الألماني مارتين فالزر رفض وضع مقدمة لرواية عربية مترجمة، وهذا بدوره يحيل على الصعوبات التي يتلقاها الأدب العربي المترجم للانتشار في الغرب، ومن خلال فهم ذلك يتبين لنا - نحن العرب - أن من يقوم بذلك من المترجمين الغربيين إنما هو يسبح ضد التيار، إنه يخدم ثقافتنا وتاريخنا ويقدم وجها ناصعا للعرب بخلاف الوجه البائس الذي يقدمه السياسيون، والواقع العربي ذاته المتسم بكافة أشكال التبعية والتسلط والتفاوت الطبقي والقهر الاجتماعي والإحباط النفسي. وفي هذا السياق تدخل ترجمات فندريش للأعمال السردية العربية الكبيرة لكبار الروائيين العرب كنجيب محفوظ وإملي نصر الله ويوسف إدريس وإبراهيم الكوني وإدوار الخراط وإميل حبيبي ويوسف زيدان وغسان كنفاني، وصولا إلى الروائية السعودية رجاء غانم صاحبة رواية "طوق الحمام" ففي جعبته أكثر من ستين عملا روائيا طويلا وقصصا قصيرة مترجمة عن العربية إلى اللغة الألمانية. من المفيد العودة إلى ذلك الحوار مع قناة دوتشه فيله، والذي يتحدث فيه عن لا مبالاة الجمهور الألماني بالأدب العربي، ولكن ليس هذا هو الوضع إزاء آداب أخرى غير غربية، مع أن العالم العربي يمتد من الأطلسي إلى الخليج ويحوز ثقافة كبيرة وثراء تاريخيا وزخما إبداعيا، ولكن لا يروج لها بالشكل الصحيح واللازم فالإخفاق الداخلي العربي امتد خارجيا إلى فشل العرب في التعريف بقضاياهم وفشلهم في التعريف بأنفسهم، بل زاد الطين بلة الاحتراب والفساد والاستبداد والرجعية في تكريس الصورة النمطية لهم في المخيال الغربي. يقول المترجم الياباني نوتوهارا إن ترجماته لروايات غسان كنفاني مثلا ساهمت في تعريف كثير من اليابانيين بالحق الفلسطيني، وبعدالة الكفاح والنضال الفلسطينيين، لأن الصورة الإعلامية المقدمة في اليابان لا تخرج عن الصورة النمطية التي تقدمها وسائل الإعلام الغربية والأميركية، حيث تقدم المناضلين كإرهابيين في حين تقدم المستعمرين والمستوطنين الإسرائيليين كدعاة سلم ولكن للأسف قليل جدا من يهتم بالثقافة العربية في اليابان. فلم هذا العزوف عن الأدب العربي المترجم إلى اللغات الأوروبية في الغرب؟ هل يعود إلى المركزية الأوروبية التي ترى ما عند الآخر (العرب) لا يستحق الاهتمام، وأن ما عندهم تكرس فقط في "ألف ليلة وليلة"؟ وإذا كان هناك ما يمكنه أن يشغل النقد الأدبي والإعلام لبعض الوقت فلن يكون سوى رواية فضائحية أو كتاب يهاجم الدين وينسب إليه كل تخلف وتبعية. أم يعود إلى أن العرب ضعف عندهم حس التعريف بآدابهم والترويج لها عبر بعثاتهم الثقافية في الغرب، وأن الإنفاق على هذه الدبلوماسية الثقافية غير مجد، وهي التي يسميها محمد أركون بالدبلوماسية الوقائية؟ في حين تكفل الواقع العربي بتصدير صورة تكرس التبعية العربية والتخلف والصراع السياسي والاستبداد والروح القبلية والعشائرية والأمية الألفبائية والثقافية والتفاوت الطبقي، وإن كان هناك ما يصدر فلن يكون غير مهرجان غنائي أو أيام ثقافية فولكلورية تكرس كذلك الصورة النمطية في المخيال الغربي المستوحاة من أجواء ألف ليلة وليلة. في مقالة لعبدالسلام بنعبدالعالي بعنوان "مسألة سيادة" من كتابه الموسوم "سيميولوجيا الحياة اليومية" يتحدث فيها عن المترجم الألماني هارتموت فندريش الذي كان يشكو من إهمال السلطات العربية لمجهوده طيلة خمسة وثلاثين عاما إلى درجة أنه لم يتلق كلمة (شكرا) من سفير أو ملحق ثقافي عربي بسويسرا حيث يقيم "إنه يطلب اعترافا رسميا بعيدا عن الثقافة والمثقفين والكتاب والمترجمين، فكأن الترجمة عنده ليست أساسا قضية نقاش ومثاقفة، ولا هي مساهمة في بناء الكونية بل إنها بالأولى قضية دبلوماسية ومسألة سيادة لغوية، أو لنقل إنها عنده مسألة سيادة وكفى". لا ينتظر فندريش كلمة شكر من ملحق ثقافي أو سفير عربي، كما آلمه ذلك وصرح به في حوار مع جريدة عربية لأن السفارات العربية لم تجد ما تنقله إلى الغرب، وقد تكفل الواقع بنقل كل شيء، كما أن واجب العرب يتأكد في مشاريع من هذا النوع تشرح للآخرين وجهة النظر وتدافع عن قضاياهم وتعرف بإبداعاتهم أفضل مما تفعله الأيام الثقافية الفولكلورية والمهرجانات الغنائية – ولو أننا لسنا ضد هذين التظاهرتين - فهل صار الدم والعنف وعدم المبالاة والفقر والاستبداد والتناحر الطائفي وكراهية الآخر المختلف هو مآل العرب الأبدي، الوجه الذي كان ناصعا في الماضي صار اليوم مشوبا بجدري الطائفية وجرب الاستبداد. لا يفاجئنا تصريحه مثلا "والعرب – والتعميم فعل فضيع - لا يعرفون غالبا من هم أصدقاؤهم". إن أصدقاء العرب الحقيقيين هم أمثال فندريش والمثقفون والمناضلون -خاصة من اليسار - عن حقوق الإنسان في الشرق وشجبهم للاستبداد السياسي العربي وليس أصحاب السياسة من الغربيين، فهؤلاء ليسوا سوى أصحاب مصالح لا يرون العرب غير آبار نفط وأسواق لصادراتهم. وما قضية فلسطين والعراق مثلا إلا برهان على النفاق في الموقف الغربي القائم على سياسة اللاعدل وازدواجية المعايير بينما موقف المثقفين ولنقل عند قسم مهم منهم هو موقف معجب بالإبداع العربي ومدافع عن الحق العربي كذلك. هذا المقال الذي كتبه عبدالسلام بنعبدالعالي، والذي يبدو فيه منتقدا لفندريش على أسفه لإهمال النخب السياسية له ولجهوده طيلة خمس وثلاثين عاما ولو بكلمة شكر، ولو أنه نال تقديرا من الأوساط الثقافية العربية، فقد كان جابر عصفور يدعوه إلى القاهرة قبل 2011 للمشاركة في حوارات ثقافية عربية، كما نال تكريمات وجوائز عربية كجائزة الترجمة من جامعة الدول العربية وجائزة الشيخ زايد للكتاب وعضوية تحكيم جائزة البوكر العربية. ما يعنينا كعرب ليس فقط شكر المستعرب الألماني عبر القنوات الرسمية – وهو يستحق - ولكن في اهتمام السفارات والملحقات الثقافية العربية بنشر وتعميم الثقافة العربية عبر التواصل مع المترجمين ودور النشر لترجمة ونشر هذه الأعمال واستدراج النقاد في الغرب للتعريف بها ونقدها على صفحات المجلات والجرائد الغربية، إذ بالكلمة – وفي البدء كانت الكلمة - يمكن الولوج إلى عقل ووجدان الغربي ومخاطبته والتأثير فيه وتغيير الصورة النمطية التي كرستها الأدبيات الاستشراقية ووسائل الإعلام التي تجحف كثيرا وتختزل أكثر وتنمط إلى أبعد حد وهذا أفضل طريق للحوار والمثاقفة. وأخيرا؛ ماذا لو كان هذا المترجم مترجما للأدب الياباني أو الصيني أو أدب أميركا اللاتينية أو الجنوبية؟ لا شك أن حاله كانت ستكون أفضل ماديا وإعلاميا واهتماما ألمانيا وغربيا به عكس اشتغاله بالترجمة عن العربية. فمن يتحمل هذا الوزر هل هو الجمهور الألماني؟ أم الإعلام الغربي؟ أم السياسات العربية التي تحتفي بكل ما هو هامشي وعرضي، ولا يقدم منفعة حقيقية للعالم العربي فكريا أو اجتماعيا أو ثقافيا؟ لا شك أن العرب مسؤولون عن الصورة النمطية التي كرسها الإعلام الغربي والمركزية الغربية عامة، فهذا الزخم الفكري والحضاري والإنساني للعالم العربي في تاريخه العريق منذ ابن رشد وابن خلدون والفارابي والمتنبي لم يجد طريقه إلى مخاطبة الوجدان والعقل الأوروبيين، في حين تغذى المخيال الأوروبي من صورة نمطية كرستها دوائره الاستشراقية والسياسية وعمل العرب في العقود الأخيرة على تأكيدها بسياساتهم العرجاء وعدوانيتهم إزاء بعضهم البعض واهتمامهم بكل ما هو سطحي، وإذا جاء من أحب هذه اللغة واعترف بوهج الثقافة العربية وعراقة الإبداع العربي وحاول تصحيح الصورة ووهب عمره لهذه اللغة وثقافتها لم يجد من العرب – اللهم إلا في دوائر ضيقة جدا - كل التهميش والحيف والإجحاف. فمتى يكون الجسر العربي الأوروبي هو سيل الكتب وطوفان الإبداع عوض براميل النفط فقط؟
مشاركة :