على الرغم من أن فكرة تأسيس بنوك رقمية تعود إلى مطلع العقد الماضي، إلا أن الكثير من العوامل تضافرت طوال هذه السنين لتدفع نحو بروز البنك الرقمي كخيار مستقبلي أمام كافة بنوك العالم. والبنوك الرقمية هي عبارة عن بنوك تقوم بتقديم الخدمات والعمليات المصرفية عن طريق الإنترنت بشكل إلكتروني، حيث تقدم نفس ما تقدمه البنوك في شكلها التقليدي لكن تقدمها بشكل إلكتروني عن طريق شبكة الإنترنت. وتحتفظ البنوك الرقمية بمركز إداري يزاول فيه الموظفون تسيير أعمال البنك الإلكترونية مع التقيد بضوابط الحوكمة، والامتثال والمخاطر وغيرها. ومن القضايا الرئيسية التي أبرزت الحاجة للبنوك الرقمية هو تطور الشبكات الرقمية وتوافرها على نطاق واسع منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، كما ظهرت الخدمات المصرفية عبر الإنترنت كخيار قابل للتطبيق، مع ظهور ما نعرفه عن الخدمات المصرفية الرقمية الحديثة. كما يذكر تقرير الاستثمار المصرفي الرقمي العالمي للربع الأول من عام 2021 الصادر من شركة تشالنجر إنسايدر أن تقدم وانتشار الهواتف الذكية في الألفية الجديدة فتح الباب أمام المزيد من المعاملات المتقدمة، وأصبحت صناعة الخدمات المصرفية الرقمية متقدمة جدًا، ويُعتقد أن 76% من الأفراد يستخدمون الخدمات المصرفية عبر الإنترنت بانتظام اعتبارًا من عام 2020. ويتبين هذا النشاط اللا مسبوق في حركة البنوك الرقمية عالميًا، حيث تجاوز المبلغ الإجمالي للاستثمارات في البنوك الرقمية على مستوى العالم خلال الربع الأول من عام 2021 الـ 5 مليارات دولار. وبلغ حجم سوق الخدمات المصرفية الرقمية العالمية 2.89 تريليون دولار أمريكي في عام 2018، ومن المتوقع أن يصل إلى 5.79 تريليونات دولار بحلول عام 2027، بمعدل نمو سنوي مركب قدره 8.9% خلال الفترة المتوقعة. كما ساهمت الأزمة المالية في عام 2008 في تعزز الحاجة للبنوك الرقمية كونها تمتاز بشفافية اكبر في معاملاتها، وبنفس الوقت يمكن التحكم في مخاطر الاقراض بصورة إلكترونية. وأيضا نظرًا إلى حاجة البنوك إلى إعادة بناء محافظها التمويلية والاستثمارية بكلف أقل. لكن جائحة كورونا كان لها قوة كاسحة على إبراز الحاجة الملحة ليس للبنوك الرقمية فحسب، بل وللاقتصاد الرقمي ككل. فقد تلمس العالم لمس اليد وسط إجراءات الاقفال والتباعد الاجتماعي وتعطل الانشطة الاقتصادية والاجتماعية والترفيهية الحاجة الملحة والفورية لابتكار قنوات بديلة لممارسة هذه الأنشطة وبنفس الوقت الحفاظ على سلامة وأمن المجتمع والفرد، ولم تكن هذه سوى القنوات الرقمية التي توسع استخدامها في كافة المجالات. لكن الأهم من ذلك، أن الآراء شبه مجمعة على أن الاعتماد المتزايد على القنوات الرقمية سوف يستمر حتى مع افتراض انتهاء الجائحة، حيث برزت الفوائد والمزايا الكثيرة لاستخدامها لكافة الأطراف المعنية بها. ويوجد حاليًا أكثر من 400 بنك رقمي في جميع أنحاء العالم، ولا تزال السوق تنمو بسرعة من حيث العدد والحجم في ظل ظروف تحول استثنائي قلما مر بها العالم من قبل، حيث يرى المراقبون أن الفرص المصرفية الرقمية لا تزال وافرة في مجالات وأسواق جغرافية ناشئة عدة في جميع أنحاء العالم. أما بشأن البنوك الرقمية الإسلامية، فقد شهدت هي الأخرى إقبالا كبيرا، وتم تأسيس عدد منها في البحرين والدول الخليجية والعربية وحتى الأوروبية. وبطبيعة الحال، فإن تجربتها لا تزال في بدايتها وتركز على أسواقها المحلية. لكن وكالة فيتش للتصنيف الائتماني تتوقع أن يكون لجائحة كورونا والتباعد الاجتماعي الناجم عنها دافعا لتسريع استراتيجيات التحول الرقمي في البنوك الإسلامية في العديد من الدول التي ينشط فيها التمويل الإسلامي، حيث إن الشمول المالي يعتبر مشكلة رئيسية في الكثير منها. وتذكر الوكالة أن سوق الصيرفة الرقمية الإسلامية ينطوي على فرص واسعة، حيث هناك 1.8 مليار مسلم في العالم أو ما يقرب من 24% من سكان العالم. كما تحتضن الدول الأوروبية عشرات الملايين من المسلمين والجاليات الإسلامية. ويمكن أن تدعم البنوك الرقمية ظهور طبقة وسطى متنامية متمرسة بالتكنولوجيا بالإضافة إلى معدلات اختراق عالية للهاتف المحمول والإنترنت في العديد من البلدان التي ينشط فيها التمويل الإسلامي. ويمكن أن تستفيد أسواق الصكوك أيضا من كفاءات السوق التي توفرها التكنولوجيا المالية كالانخفاض المتوقع في التكاليف واختصار الوقت والوصول إلى مجموعة أكبر من المستثمرين من خلال زيادة استخدام التقنيات. علاوة على أنها سيكون لها تأثير واضح على نجاح المشروعات الصغيرة والمتوسطة وريادة الأعمال في الدول النامية بشكل خاص، حيث تتيح لهم الحصول على التمويل بكلفة أرخص، كذلك تتبع مبيعاتهم ومخزونهم وايراداتهم اليومية بسهولة من خلال الدفع الرقمي. وصحيح أن تطور البنوك الرقمية الإسلامية سوف يواجه نفس المشاكل التي تواجه البنوك الرقمية التقليدية في جوانب عديدة، علاوة على تطوير التشريعات المالية الإسلامية التي تسمح وتسهل تقديم الخدمات المصرفية الرقمية بكافة أنواعها، فإن هذا لا يمنع من دعوتنا في ختام هذا المقال إلى التفكير في إطلاق بنوك رقمية إسلامية على المستوى العالمي تقتدي بتجربة البنوك الإسلامية العالمية التي شهدنا نجاحات الكثير منها طوال العقود الأربعة الماضية وأثبتت جدواها في ربط أسواق دول المنطقة بالأسواق والمستثمرين العالميين. كما يمكن للبنوك الرقمية الإسلامية العالمية أن تتوجه لتلبية احتياجات عشرات الملايين من المسلمين والجالية الإسلامية في الأسواق الأوروبية، علاوة على تنامي الطلب من قبل الحكومات والشركات والأفراد في هذه الأسواق على المنتجات المصرفية الإسلامية. ولعلنا نعود لمناقشة هذه الفكرة بتفاصيل أوسع في مقالات قادمة إن شاء الله. رئيس جمعية مصارف البحرين
مشاركة :