عندما يرحل الذين نحبهم يأخذون معهم كل أشيائهم الصغيرة، إلا ابتسامتهم، فهي تبقى معنا، تبقى تضيء علينا ظلام رحيلهم، وتبقى خالدة ذكراهم رغم رحيلهم عن دنيانا. غاب الأنيق الطيب المبتسم دائماً، كريم النفس و اليد واللسان، هكذا كانت كلمات الوداع التي اكتست بها شفاه المودعين. رحل سعيد مصبح بن مترف الطنيجي، وبكت القلوب قبل المحاجر لفراقه. ولد سعيد الطنيجي في منتصف الستينات من القرن الماضي في قرية الذيد بين أحضان البيئة البدوية، وفي تلك الفترة عاشت عائلته تتردد على أطراف الوادي في الشتاء وعندما يحل الصيف ترتحل نحو مزارع النخيل في الذيد القديمة. عندما أبصر النور كانت المنطقة تعيش تحولاً كبيراً بافتتاح أول مدرسة في المنطقة الوسطى من إمارة الشارقة والتي أشرقت بها نور العلم والضياء على أهالي المنطقة. وهي المدرسة التي درس فيها سعيد مصبح وتعرف إلى العديد من أصدقاء الطفولة خارج منظومة الفريج. تعلم مع أقرانه حب الوطن والتضحية، حتى إنه أوصى أبناءه بالالتحاق بالقوات المسلحة الحصن الحصين للوطن والقيادة، وذلك للدفع بهم للدفاع عن مقدرات الوطن حتى لو نالوا الشهادة دفاعاً عن الحق والعدل كما كان يؤمن رحمه الله. التحق سعيد الطنيجي بكلية القانون في جامعة الإمارات وذلك لحبه بإحقاق الحق والعدل، إذ كان قلبه عامراً بتلك الصفتين، ومع تخرجه والتحاقه بالعمل في نيابة العاصمة رحل والده الذي كان له بمثابة الدنيا وسعادتها، فشكل رحيله صدمة له في مقتبل العمر جعلت منه وأخاه الأكبر العائل الوحيد لأفراد الأسرة. أيقن سعيد الطنيجي أن قدر الله المحتوم لا بد منه وعليه أن يتحمل جزءاً من أعباء الأب لكي تستمر الأسرة في المسار ذاته الذي خطه لا يحيد عنه أحد. اجتمعت الأسرة حين مساء بعد العزاء وتعاهد الأبناء على تحقيق حلم والدهم بأن يلتحقوا بالجامعات ويأتوا بأعلى الشهادات. في تلك الليلة أشار سعيد إلى أنه سيكون عوناً و سنداً لإخوته حتى نهاية الطريق. مع حلول فصل الربيع تكتسي الأرض ببساط أخضر من العشب والكلأ، وعندها تجد سعيد بن مترف الطنيجي يكرر النداء تلو الآخر ويحث الشباب على الاستعداد لرحلات البر التي كانت تستهويه، ويأخذ زمام المبادرة في ترتيبها من الألف إلى الياء ليقين أصدقائه بأنه سر نجاحها. كان يضرب لهم الموعد المعتاد عند أول الفريج في المخرج نحو شارع فلج المعلا والهدف منطقة السرة بإمارة أم القيوين. كان شعلة نشاط منذ البداية حتى آخر لحظات الرحيل، منذ البداية يؤكد للجميع: لا تلقوا بالقمامة في المكان فغداً تحل هنا أسرة تستمع بالمكان. عرفه زملاؤه في العمل بالانضباط والهمة العالية، وهم لا يخفون علامات القيادة والابتكار عليه، وعلى الرغم مما يتطلبه منصبه من الحزم في القضايا والملفات التي يدرسها كل يوم، فإن العاطفة الإنسانية تطغى عليه في التعامل مع أشد القضايا، حيث لا تبارحه فهو يذهب إلى أبعد الحدود في التوصل للحلول المرضية للطرفين قبل فتح ملفات المتقاضين ودخولها المحاكم. وعلى حين غرة، ألم به المرض ولم يمهله حتى يفرح بتخرج فلذات كبده من مصنع الرجال ومفخرة الوطن: المدرسة العسكرية. توسد يمناه في قبره وابتسامته لا تفارق خيال مودعيه، مقبل بابتسامته يلاقيك، وسريعاً ترجل وودع الجميع بحنين الشوق للقاء قريب، تناقضات عطرت ذكراه وبقيت الدموع حبيسة في المقل. ذلك هو سعيد الذي رحل، أدخل السعادة على من حوله رغم حزنه الذي دائماً ما كان يخفيه، وكان العيد الماضي أول عيد يأتينا منذ نصف قرن أو يزيد من غير سعيد، رحمه الله.
مشاركة :