حوار :جمال سالم أكد وزير الإرشاد والأوقاف السوداني الفاتح تاج السر أن الدستور المنبثق من الشريعة الإسلامية في بلاده يؤكد حرية العقائد، وممارسة الشعائر الدينية على عكس ما يدعيه بعضهم من تعرض غير المسلمين في السودان لتضييق وظلم، وكشف الدور الكبير الذي تقوم به مؤسسات الوقف الإسلامي سواء في مجال العمل الخيري أو الدعوي، وأشار إلى حرص وزارته على التواصل مع وزارات الأوقاف في مختلف الدول العربية والإسلامية انطلاقاً من وجوب العمل الجماعي للنهوض بالأمة، وحذر من تصدر الجهلاء وأدعياء الدعوة والإفتاء المشهد، ووصولهم إلى الشباب مما يؤدي إلى انتشار التطرف الديني، وعلى الجانب الآخر الإلحاد نتيجة افتقاد الاعتدال والوسطية التي يتميز بها الفكر الإسلامي المستنير، واعترف بوجود حملات لتضليل المسلمين في إفريقيا وطالب بالعمل على محاصرة نشاطها من خلال نشر الوعي الديني وجهود الإغاثة الإسلامية في المناطق الفقيرة التي يستغلها خصوم الإسلام. وفيما يلي نص حوارنا معه خلال زيارته الأخيرة للقاهرة: } وزارة الإرشاد والأوقاف السودانية من الوزارات الحديثة مقارنة بغيرها من وزارات الأوقاف في الدول العربية والإسلامية.. فما الرسالة التي تقوم بها وزارتكم؟ من الضروري أن تكون في دولة إسلامية مثل السودان وزارة قوية للإرشاد الديني ورعاية الوقف الخيري واستثماره ومحاولة تكثيره، ولذلك أنشئت الوزارة، ورسالتها تعميق الإيمان بالله تعالى في نفوس السودانيين، ولعل هذا هو أقوى الدوافع المعنوية المحركة لفعل الخير وإعمار المجتمع من خلال القيم السامية، والأخلاق الفاضلة التي تؤسس في النفوس العدل والمساواة واحترام الكرامة الإنسانية، ومحاصرة نوازع الشر والظلم وكل رذائل الأخلاق، ويتم تنفيذ هذه الرسالة من خلال أربعة أهداف رئيسية هي: نشر التدين ورعاية دور العبادة، ودعم قيمة السلام والتسامح، والعمل على وحدة الأمة ووحدة الوطن، ثم السعي إلى إصلاح ورقي المجتمع من خلال غرس القيم والأخلاق الفاضلة النابعة من الإسلام، وذلك لحفظ كيان المجتمع لتحقيق الهدف الاستراتيجي للبلاد والعباد وهو التمكين لقيم الدين وإعلاء شرائعه، وتعظيم شعائره. برامج شاملة } قد يقول قائل هذا كلام رائع نظرياً، ولكن كيف يتم تحقيقه على أرض الواقع عملياً؟ نقوم بتحقيق أهدافنا الإسلامية والإنسانية والاجتماعية من خلال وضع السياسات العامة في مجال الدعوة، وغرس القيم الفاضلة في المجتمع، وتعميق روح التدين والسمو الروحي، ونقوم بتنظيم وتطوير أساليب الدعوة ورعاية مؤسساتها وهيئاتها، وتدريب الدعاة وأئمة المساجد ورعاية وتوجيه الطرق الصوفية ومشايخها ومؤسساتها، وكذلك العناية بالشؤون المسيحية والديانات الأخرى بالتعاون مع الهيئات والمؤسسات في هذا المجال، وإحياء دور الوقف الخيري، ووضع السياسات والخطط والبرامج التي تعين على استخدام وترشيد موارده وتنمية وتطوير العلاقات مع الدول والمنظمات الإقليمية والدولية وتدريب الأئمة والدعاة ومشرفي شؤون الحج والعاملين في مجالي الأوقاف وبسط الدعوة الإسلامية وسط المواطنين في الريف والحضر وحفز مؤسساتها وتطوير برامجها ووسائلها. } هيئات الأوقاف الإسلامية في وزارات الأوقاف هي الأذرع الاقتصادية لها في استثمار الوقف وتوظيفه في مصلحة العباد والدعوة في ضوء الضوابط الشرعية للوقف.. فما دورها لديكم في السودان؟ نشأت هيئة الأوقاف الإسلامية بالسودان كهيئة ذات شخصية اعتبارية مستقلة عام 1989، وصدر قانون خاص بها تم تنفيذه وتم تعديله ليكون أكثر مواكبة في عام 1996، لتصبح مؤسسة استثمارية، تدار على أساس اقتصادي يناط بها تنمية وتطوير واستثمار أموال الأوقاف السودانية بشكل رأسي وأفقي، ويدير أعمالها مجلس إدارة اتحادي تحت مظلة وزارة الإرشاد والأوقاف السودانية على أفضل وجه في كل أرجاء البلاد لما فيه مصلحة الشعب السوداني. ووفقاً لقانونها فإن هيئة الأوقاف السودانية لها العديد من المهام الجسام من أبرزها إدارة ونظارة وتطوير الأموال الموقوفة لجهات البر الإسلامية داخل السودان وخارجه بشرط الالتزام بأحكام الشريعة من جهة، وشرط الواقف من جهة أخرى، مع العمل الجاد والمستمر على صيانة الأموال الموقوفة وتحسينها وبنائها وإعادة تأهيلها وتعديلها واستثمارها في جميع المجالات الاستثمارية، سواء العقارية أو التجارية أو الصناعية أو الزراعية أو الخدمية وغيرها من الأنشطة الاستثمارية. استعادة الثقة بالوقف } من وجهة نظركم: كيف يمكن تشجيع المسلمين على وقف أموالهم بعد أن تراجع الوقف بشكل كبير خلال العقود الأخيرة؟ يتم التشجيع بإعادة ثقة أهل الخير في الوقف، وضمان عدم ضياعه أو سرقته كما حصل في كثير من الدول العربية والإسلامية، ولهذا تعمل هيئة الأوقاف السودانية على سبيل المثال على إثبات صفة الوقف على أي مال موقوف لجهة من جهات البر الإسلامية، وحفظ جميع المستندات الخاصة بالأوقاف واستعادة أعيان الوقف التي تكون بيد الغير أو الحصول على تعويض بديل لها وفقاً لأسس الشرع الإسلامي مع حفظ الأموال الموقوفة ومنع التعدي عليها، إضافة إلى توعية الرأي العام الإسلامي بأهمية الوقف وثوابه عند الله باعتباره أحد أوجه الصدقات الجارية، والأنشطة الخيرية التي يعود نفعها على مستحقي المساعدة ودعم أعمال الدعوة الإسلامية. } يعتقد كثيرون أن هيئات الوقف لا يمكن أن تؤدي دورها من دون مساندة الدولة لها.. فهل هذا يتم لديكم في السودان؟ بالتأكيد من خلال إجراءات عديدة فمثلاً بعد أن كانت الأوقاف إدارة تابعة للمحاكم الشرعية في السابق، وكان قاضي القضاة هو ناظر عموم الأوقاف، وتبع ذلك تبعيتها للمجلس الأعلى للشؤون الدينية والأوقاف ثم أصبحت إدارة بوزارة الشؤون الدينية والأوقاف ثم صدر قرار من الرئيس عام 1990 بإعادة جميع الأراضي الوقفية التي بيد الغير إلى هيئة الأوقاف الإسلامية ثم صدر قرار رئاسي آخر يقضي بتخصيص قطع أراضٍ لهيئة الأوقاف الإسلامية في المواقع الاستثمارية والخطط الإسكانية والعمرانية، مما أدى إلى تنمية وتطوير ونهضة الأوقاف الإسلامية. ونحن والحمد لله لدينا تسع عشرة إدارة في الولايات السودانية، فضلاً عن إدارة أو مكتب خارجي يدير ويشرف على تنفيذ شروط الواقف بالأوقاف السودانية بالسعودية عن طريق مكتب بمدينة جدة، ويقوم بالإشراف على الأوقاف الموجودة بجدة والمدينة المنورة، وتتبع هذه الإدارة حالياً الهيئة العامة للحج والعمرة، وقد تمكنت هيئة الأوقاف الإسلامية من إنجاز العديد من المشروعات الكبرى بمختلف ولايات السودان وخارجه، منها أوقاف مستحدثة وغير تقليدية مثل مشروع الغرس الطيب الذي يسعى لخضرة البيئة وجلب الفائدة، وذلك بزراعة الأشجار المثمرة والنخيل. خدمة الدعوة } كيف قمتم بتوظيف أموال الوقف في خدمة الدعوة الإسلامية في السودان؟ لدينا خطة طموح في هذا الميدان فمثلاً قمنا بإنشاء صندوق وقفي لرعاية الطلاب ودعم طلاب التعليم بوجه عام والتعليم الديني بوجه خاص، فهناك على سبيل المثال لا الحصر وقف المصحف الشريف بولاية سنار، إضافة إلى صيانة وإعمار وتجميل أكثر من 2600 مسجد، وكذا تقديم الدعم لمكاتب تحفيظ القرآن الكريم، وتدريس علومه لمختلف الفئات العمرية وللجنسين، وفي مختلف الولايات السودانية، ووصل الأمر إلى تقديم الدعم لدور التعليم والجامعات الدينية باعتبارها من المدافعين عن العقيدة، وكذلك عقد المؤتمرات والندوات والمسابقات الدينية، ولهذا أعدت الهيئة ونفذت خططاً وبرامج للتعريف والتوعية بأهمية الوقف في العمل الخيري والدعوي. تواصل مثمر } توليتم وزارة الشباب قبل الأوقاف وكنتم تؤكدون دائماً أن افتقاد التواصل بين الدعاة والشباب أدى إلى وجود ظاهرة الفكر المتشدد.. فما الذي جعلكم تقولون ذلك؟ لا شك أن التواصل الجاد والمستمر بين العلماء الوسطيين المعتدلين وبين الرأي العام عامة وشباب الدعوة الذين ينتشرون بين الجماهير يؤدي إلى محاصرة الأمية الدينية التي تؤدي إلى التطرف من جانب أو الإلحاد الذي بدأ يعلو صوت أتباعه في الفترة الأخيرة، ولهذا آثار كارثية إذا لم تتم مواجهته على مستوى الأمة كلها بشكل علمي وعملي. } ما الحل الجذري لمشكلة التطرف الديني من وجهة نظركم؟ نحن في حاجة إلى استراتيجية متكاملة بين مختلف الجهات المعنية برعاية وتثقيف الشباب في مختلف الدول العربية والإسلامية، ولابد من أن يتلازم هذا مع تجديد الخطاب الديني، بحيث يسهم في إظهار صورة الإسلام السمحة الوسطية المعتدلة التي شوهها المتشددون والمتطرفون في هذه الأيام، واستخدموا في سبيل ذلك وسائل الإعلام واسعة الانتشار بل وبلغات مختلفة، ولهذا لا بد أن يكون رد الفعل الذي يستهدف محاصرة التطرف والإلحاد واسعاً وقوياً ومدروساً ومستمراً وليس رد فعل لحظياً أو عشوائياً، خاصة مع ضعف المخزون المعرفي والشرعي لدى الشباب. فتاوى الجهلاء } ألا ترى أن تناقض الفتاوى وتركيزها على قضايا هامشية أدى إلى إحداث بلبلة. هناك مرض اسمه حب الشهرة ينتشر بين أدعياء العلم الشرعي، وبالتالي فإن ضعف المخزون المعرفي الشرعي لديهم تظهر آثاره السلبية في الشباب الذي يعاني من الأمية الدينية مما جعلهم يأخذون ببعض النصوص دون غيرها، وتزيد المشكلة تعقيداً عندما يأخذون بالمتشابهات ويتناسون المحكمات، فضلاً عن أنهم في الغالب يأخذون أو يروجون للجزئيات ويغفلون أو يجهلون القواعد الكلية، وكما قالوا فاقد الشيء لا يعطيه، وهذا يؤكد خطورة تصدي الجهلاء للمشهد الإفتائي مع قلة بضاعتهم، وهؤلاء ينشرون الفوضى، حيث يفهمون النصوص فهماً سطحياً وسريعاً فهم غير مؤهلين للفتوى في الأمور الخطرة، ولذلك يفتون بغير علم فيضلون هم ويقودون غيرهم إلى الضلال. } لكن بعضهم قد يكون مخلصاً رغم قلة علمه؟ الإخلاص وحده لا يكفي، بل لا بد من أن يسنده فقه عميق وعلم بشرع الله وأحكامه وربطه بالواقع، أي إنزال الأحكام الشرعية على الواقع، أما النية الطيبة بغير علم فهي ضارة، ولعل هذا ما لخصه الإمام الحسن البصري حين قال: العامل على غير علم كالسالك على غير طريق فإن قوماً طلبوا العبادة، وتركوا العلم حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد، ولهذا وجدنا الأئمة يوصون بطلب العلم قبل التعبد لمعرفة الأحكام الصحيحة. } لا توجد قضية كثر الحديث فيها حديثاً مثل تجديد الخطاب الديني.. كيف نحمي الدين من أدعياء التجديد؟ اجتهد الفقهاء في تحديد مواصفات المجدد الديني عبر التاريخ، وأجمعوا على أنه يجب أن تتوافر فيه عدة شروط أهمها: الإخلاص في النية لله تعالى، والاطلاع والمعرفة الشاملة بالعلوم الشرعية والتاريخ الإسلامي عالماً بالمقاصد الشرعية والتشريع الإسلامي، ولديه قدرة على استنباط الأحكام وأن يتصف بالشفافية والموضوعية، وألا يكون متحيزاً لمذهب أو طائفة. } هل تتخيل أن كل هذه المواصفات يمكن أن تجتمع في شخص واحد؟ - هذا أمر صعب بالطبع، ولهذا فإن البديل أن يكون التجديد من خلال جهد جماعي لمجموعة من العلماء المتخصصين الذين يتكاملون في معلوماتهم فيكون التجديد أكثر شمولية، كما أن الإفتاء الجماعي في القضايا المستحدثة جزء من هذا التجديد الجماعي الذي نحن في حاجة شديدة إليه على مستوى كل الدول العربية والإسلامية.
مشاركة :