عند نهايات القرن الماضي انتقد الفيلسوف ميشل سير M.Serres التمزّق الذي يطبع الجامعة الفرنسية وتوزُّعَ أقسامها بين الأقسام العلمية والأدبية، ناعتاً خريجي الأقسام الأولى بـ«المتعلّمين غير المثقفين»، وخريجي الأقسام الأخرى، بـ«المثقفين الجهلة»، Les instruits incultes.et les cultivés ignorants ولا ينبغي أن نفهم، هنا، من كلام الفيلسوف الفرنسي إعلاءً لتخصّص على حساب آخر، وتفاضلاً بين ما يدعوه «العلوم الناعمة» وما يطلق عليه «العلوم الصلبة»، وإنما هي دعوة إلى دمج الأقسام فيما بينها، وفتح آفاق طلاب الأقسام العلمية، بوجه خاص، على الدراسات الاجتماعية والتاريخية والفلسفية، وخصوصاً أن أكثر القضايا المطروحة في عصرنا تقتضي، في نظره، «فكراً مركّباً»، ومزجاً بين «التعلّم» و«التثقيف». ونعلم أن الفصل بين التخصصات والأقسام ليس هو الأصل، ولكن لظروف معرفية وتاريخية أخذت العلوم تنفصل عما اعتُبر شجرة معرفة متفرعة. كما نعلم أيضاً أن ما سمّي علوماً اجتماعية تبلور في القرن التاسع عشر وتطوّر، جنباً إلى جنب، مع سلسلة من الثورات الصناعية والسياسية، فكان استجابة لحاجة الأفراد والمجتمعات لفهم الهزات التي مرّت بها مختلف المجتمعات الأوروبية آنذاك. وغير خافٍ أن الحاجة إلى العلوم الإنسانية غدت اليوم ضرورية أكثر من أيّ وقت مضى. ذلك أن المجتمعات المعاصرة أصبحت تتسم بتنوع الهياكل الاجتماعية والاقتصادية من خلال تسارع التغيير وتحديث المعلومات. طفرة جديدة ولا شك أن ذلك التطور ينبئ بطفرة جديدة لا يعلم أحد ما ستجرّ إليه. ولذا فإن الحاجة إلى العلوم الإنسانية ما فتئت تتزايد بهدف تقريب الأفراد والجماعات من ملاحقة هذه التطورات المتجددة.وعلى رغم ذلك، فإن ثمة من الباحثين من لا يزال يطعن في جدوى تلك العلوم وأهميتها في مجتمعات تُقاس فيها الأمور بالمنفعة المباشرة. والغريب أنه، حتى في التقليد الفرنسي، الذي يُشهد له بترسيخ الفلسفة في مقررات الدراسة الجامعية والثانوية على مدى قرون، كانت بعض الأصوات ترتفع من حين لآخر، وخصوصاً في عهدي الرئيسين الأسبقين جيسكار ديستان ونيكولا ساركوزي، ضد ما كان ذلك التقليد يدعوه الدراسات الإنسانية Les humanités، بهدف إرساء تعليم يستجيب لإملاءات سوق الشغل. ودعوى هؤلاء أن الفعالية البشرية، بما فيها الفعالية المعرفية، ينبغي أن تقاس بمردوديتها. فلا خير في معرفة لا تنفع. والمنفعة تقاس هنا أساساً بمدى قدرة التعليم على تكوين طلاب قادرين على أن ينخرطوا في سوق العمل، وأن يساهموا في دواليب الإنتاج. معرفة بالمعرفة إلا أننا، إن أخذنا بعين الاعتبار أن التعليم لا ينبغي أن يقتصر فحسب على أن يوفّر من يشغل مناصب العمل، وإنما أن يسعى أيضاً إلى تكوين مواطن قادر على الانفصال عما يفرضه عليه الواقع اليومي، وما يُغرقه فيه مجتمع الاستهلاك الذي يسعى نحو توحيد الأذواق والآراء والعواطف وأنماط التفكير، فإن التعويل على ما تزوّده به العلوم «الصلبة» وحدها، قد لا يفي بهذا الغرض. ذلك أن المعرفة التي يحتاجها ذلك المواطن لا ينبغي أن تقتصر على ركام من المعلومات القطاعية التي تختص بمجالات بعينها، وإنما تلك التي تُمكّنه من القدرة على تركيب هذه المعلومات فيما بينها وتنظيمها لمواجهة مختلف القضايا التي تكون في أغلب الأحيان قضايا شائكة لا تكفي لحلّها معرفةٌ بعينها، وإنما لا بدّ، لذلك، من معرفة من الدرجة الثانية، «معرفة بالمعرفة ذاتها». وفضلاً عن هذا فالمهارات التي يوفّرها التكوين التقني اليوم أصبحت أيضاً تُعهد إلى الآلات، أما المهارات الفكرية والنقدية فهي محتاجة إلى تكوين لا يقتصر على ما توفّره الأقسام العلمية وحدها. ولذا فإن كان عدد متزايد من الخبراء يعتقد أن الآلية، بمساعدة الذكاء الاصطناعي، لن تقضي على معظم الأعمال اليدوية فحسب، بل ستغني كذلك عن العديد من المهام الفكرية، إلا أن المهام التي لا يمكن اختزالها في خواريزميات، شأن الإبداع والتفكير النقدي والتسيير، ستظل في حاجة إلى التكوين الذي لا يمكن أن توفّره إلا العلوم الإنسانية. العلم لا يفكّر ذلك أن العلم، إن كان «يفهم» فهو «لا يفكّر» على حدّ تعبير مارتن هايدغر الذي كتب: «إن هذه العبارة: «العلم لا يفكّر»، التي خلّفت كثيراً من الضجيج إثر نطقي بها، تعني أن العلم لا يشتغل في إطار الفلسفة، إلاّ أنه، ومن غير أن يعلم، ينْشدّ إلى ذلك الإطار. فعلى سبيل المثال: إن الفيزياء تشتغل على المكان والزمان والحركة. إلاّ أن العلم، بما هو كذلك، لا يمكنه أن يحدّد ما هي الحركة؟ وما المكان؟ وما الزمان؟ العلم إذن لا يفكّر (...). ليست العبارة: «العلم لا يفكر» عتاباً ومؤاخذة، وإنما هي مجرد إثبات وتحديد للبنية الداخلية للعلم: من خصائص ماهية العلم أنه يتوقف على ما تفكّر فيه الفلسفة من جهة، وأنه من جهة أخرى، يتناسى أيضاً ذلك ويُهمل ما يستدعي أن يكون محطّ تفكير». ويرجع الفضل إلى بعض المفكرين الألمان، من إيمانويل كانط إلى هايدغر، في إعادة النظر في العلاقة بين العقل والفكر Raison et pensée. فهايدغر يميّز بين الفكر المفكِّر الذي هو سمة الفلسفة التأملية من جهة، ومن جهة أخرى، العقل الذي ينكشف من خلاله النشاط العقلي للعلوم والعقلانية العلمية، والذي يظل منحصراً في المجال الحسابي للإجراءات الصورية والمجرّدة للمنطق والرياضيات والعلوم المضبوطة. أيديولوجية التقنو-علم لقد كشف «التفكير في العلم» عن التغيير الكبير الذي حدث في المجتمع العلمي خلال القرن الماضي حيث أصبح مجتمعاً تقنو-علمياً، وحيث غدا التقنو-علم يتحدد في المقام الأول من خلال أساليبه، حيث تسود الأدوات التكنولوجية المتقدمة وأهدافها التي هي إنتاج تقنيات جديدة تكون دائماً أكثر كفاءة، وأكثر سرعة، وأكثر قوة. ففي وسط البحث العلمي اليوم، معظم ما هو محطّ رغبة في البحث والتقصّي هو تقنيّ بشكل حصري تقريباً. والنتيجة هي هيمنة عقيدة الفعالية على جميع مستويات النشاط البشري، مما يجعل من التقنو-علم الأيديولوجية الأساس لجميع المجتمعات الصناعية. وعندما غدا التقنو-علم أيديولوجية، صار بإمكاننا أن نكون «في» التقنية من غير أن نكون أمام آلات. ذلك أن التقنية ليست مجرد أجهزة، بل هي شكل من أشكال الحقيقة، وكيفية من كيفيات الوجود، وهي الكيفية التي يختفي فيها الوجود ليظهر كمستودع. الانكشاف الذي يحكم التقنية الحديثة هو عبارة عن تحريض تُعامل فيه الطبيعة على أنها مستودع لطاقة يمكن أن تستخرج وتتراكم، ويُنظر إلى سائر الموجودات، بما فيها الإنسان، على أنها مركّب من القوى قابل للحساب الرياضي. وحتى المعرفة العلمية ذاتها هي كذلك طاقة ورصيد معلومات تحت الإمرة. التقنية ضد العقلنة عندما يصف هايدغر التقنية على هذا النحو، فهو يقصد أنها تحدّد مفهومنا عن المكان والزمان، وأنها تغيّر أنماط عيشنا وأسلوب تفكيرنا، وتؤثّر على فنوننا وآدابنا، وتغيّر أذواقنا وأهواءنا، وتنظّم إداراتنا ودواليبنا، فتحدّد العلم وتشرط مناهجه وموضوعاته. بل إنها قد تعمل ضد العقلنة ذاتها. فرغم وهْم التحكّم في الطبيعة وفي الإنسان، الذي ما تنفك التقنية تنشره، ورغم وهْم الضّبط والعقلنة والتّنظيم الذي ما يفتأ العلم يرسّخه، فإنهما سرعان ما يدفعان الإنسان نحو تشكيل مدّخرات هائلة من الطاقة تنفلت من كل عقلنة، ونحو نَهَم الاستهلاك الذي لا تحدّه حدود، فيجرّان العقل إلى أن يعمل ضد كل تعقّل، بل إنهما قد يعملان في النهاية ضد الإنسان ذاته. ولذا إن تُرك التقنو-علم يعمل كما يحلو له، ويُحدّد أهدافه ووسائله وحدوده بدلالة الحصول على أكثر ما يمكن من الفعالية، من غير تدخل أخلاقي أو سياسي أو فلسفي، ومن غير انفتاح على العلوم الإنسانية، فإنه «لن يفكر قطّ»، ولن يعمل إلا على أن ينزّل الاعتبارات الإنسانية والاجتماعية في المرتبة الثانية من غير أن يوليَها اهتماماً، بل إنه قد يتجاهلها تمام التجاهل.
مشاركة :