في يوم الأب.. أُحيّي روحاً ترقد بسلام

  • 6/24/2021
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

رحل – رحمه الله – قبل ولادتي بشهر أو شهرين، كما قيل لي. بدأت حقيقة اليُتم في تلك اللحظة حين تأخر تسجيل أوراق ولادتي، فسجلت الولادة رسمياً متأخرةً عن الموعد الحقيقي بضعة أشهر. ولن تنتهِ قصة اليتم هنا، فقد كان رحيله على زمن (التابعيات)، وحين أردتُ استخراج البطاقة الوطنية لم أتمكن من إضافة اسم العائلة في البطاقة حتى اليوم. هذا كله شيء، والمرارة التي لا تزال في الحلق منذ الطفولة شيء آخر، ولهذا، فاليُتم ليس فقط مجرد الحرمان من الأب، وإنما منظومة معقدة وممتدة من الفقد، والخسائر، والشعور بالخذلان، وانعدام الحول والقوة. لكنه في نفس الوقت مصدرٌ من مصادر تلك القوة والطاقة والرغبة في النضال من أجل تحدي الحياة؛ وذلك لأن كل تلك الدموع التي يبتلعها اليتيم في صغره ستحقن دمه بالبارود في مستقبل الأيام. *** رحل – رحمه الله – ولم يترك سواي ولداً (آمل أن أكون صالحاً) فأدعو له. لم يترك لي شيئاً لأَرِثَه منه بعد رحيله سوى الشعر، والحب، والقلب المترع، وملامح الوجه الأزدي الذي يبوح فوراً بما في داخله. لقد أوصل إليّ -بأمانة- ذلك الفلاح القابع في دماء الأجداد، تركه في دمي ثم رحل، وهاهو الفلاح يركض في حقول الحياة، فلا يكاد يضع معوله حتى يحمل مسحاته، ولا يكاد يضع المسحاة حتى يحمل المنجل، فلا ينفك يحاول الركض بقدميه الغارقتين في الطين، وصارخاً في وجه الحياة وقسوتها: يا الله اليوم يا ربّي *** يا معين(ن) لطلّابه يا الذي تنبت الحبِّ *** يابس(ن) يوم نذرا به *** لكن رحيل والدي كانت نجاةً له قبل أن يسطو زمن التزييف، والمزايدات، والعبث، والكذب، وشيوع الطمع. كان رحيله قبيل أحداث اقتحام الحرم المكي بأيام، فكان أكثر حظاً بنجاته من كل ما يعكر المزاج أو يخدش تلك الروح الشاعرية التي كان يحيا بها. لقد نجا حقاً من صدمات الأزمنة وفواجعها، وخيانة الأصدقاء وخذلانهم، ومكائد الأقربين ودسائسهم. نجا من رؤية الزمن الذي يبيع فيه الرجل ضميره ومبادئه كي يكسب شيئاً ما.. الزمن الذي بات لا يبتسم أكثر سوى لمن ينافق أكثر.. الزمن الذي توارى فيه الواضحون والأنقياء، فذابوا في حياةٍ لم تعد تتسع لهم. لقد رحل والدي في ذلك الوقت الذي كانت فيه الشيم تزيّن جباه الرجال. *** في زمن مضى قال والدي ذات لحظة شعرٍ: ( يقول محمد لو إني أقدر أعالج الناس *** شفاهم الله بلا دكتور وبلا صحيّه ) أبشرك يا أبي.. لقد زاد عدد الأطباء، وزادت (الصحيّات)/ المستشفيات، ولكن زادت أمراض الناس أكثر. ماذا كنتَ ستعالج لو كنتَ تقدر؟ إن أمراض الجسد التي تعرفها قد زادت عليها أضعافها من أمراض الروح. لم يعد الشقاء في أجساد الناس، بل في أرواحهم. وهذا مما نجوتَ منه حين رحلت ببراءتك ونقائك في الزمن المناسب. *** في يوم الأب، لا أملك ما أمنحه لأبي سوى هذه الكلمات. لعلّ وعسى أن تطير بها الريح فتلامس روحه الطيبة. أريد أن أقول له: أبي.. إنْ كنتَ راضياً عني، أو غير راضٍ، فاعلم أنني قد حاولتُ، وكافحتُ، وحفيت، وشقيت، وصارعت الأوباش، ولا زلت أصارع في كل اتجاه، بدءاً من صراعي مع اليُتم، وصولاً إلى صراعي مع أعداء كالسمك في الماء لا أراهم ولكن أشعر بوجودهم. لقد كسبتُ أشياء، وخسرت أشياء أكثر. أحبني أناس، وكرهني آخرون وأظنهم أكثر، لا لشيء سوى لأني لا أشبههم. فرحت قليلاً وحزنت أكثر. حققت القليل من أحلامي، لكن خيباتي كانت أكثر. أحب أن أقول لك: إنني لازلتُ مستمراً في المحاولات بروح ذلك الجبليّ البار بصلابة جباله حتى يصفو الزمن أو أن ألحق بك، ولكن الزمن المعقد، وأقدارنا التي جرت وتجري فيه، أكبر مني ومنك ومن أحلام كل الفلاحين وشقائهم المسفوح منذ الأزل. *** ملحوظة غير مهمة: هذا المقال الوحيد الذي تسللت الدموع بين أسطره أثناء كتابته.

مشاركة :