للدكتور بكر أبو زيد رحمه الله تعالى رأي في المستلَّات التحقيقية، حيث ذمَّ هذه الظاهرة وسمَّاها «تَنْتِيْف الكتب»، وعرفها بأنها: «اختيار بحثٍ أو سَلْخِهِ من كتاب لابن القيم – رحمه الله تعالى – مثلاً، فيُكْتَبُ على غلافهِ: تأليف ابن القيِّم، دون الإشارة إلى أنَّه من كتاب له، وهذا غاية في التغرير والتلبيس». الرقابة على التراث، (ص282). وكنت أستنكر تحقيق المستلات بكل أشكالها بدايةً؛ تأثرًا برأي الدكتور بكر أبو زيد -رحمه الله-، ثم استحسنته لما له من فوائد وقفت عليها، فأخذ هذا الحكم دون تحديد «الماصدق» عليه يضر كثيرًا بخدمة التراث، وهو يحتاج إلى تفصيل تبعًا لصوره المختلفة التي وقفت عليها. ففي تراث ابن خالويه (ت370هـ) كثير من الاستلال أو «التنتيف»، ولا يشبهه في هذه الظاهرة غير تراث ابن كثير(ت774هـ) حيث استُلَّ من موسوعته التاريخية «البداية والنهاية» كتب كثيرة، هي: «بداية الخلق»، «قصص الأنبياء»، «السيرة النبوية»، «شمائل الرسول ودلائل نبوته»، «علامات يوم القيامة»، «النهاية في الفتن والملاحم»، كل هذا مستل من كتاب واحد، وابن القيم (ت751هـ) الذي استُلَّ من كتبه: «الطب النبوي» استُلَّ من «زاد المعاد»، و»التوبة» مستلٌّ من «مدارج السالكين»، و»ذم الحسد وأهله» مستلٌّ من «بدائع الفوائد». والمستلَّات في تراث ابن خالويه (ت370هـ) لها عدة صور: منها استلال جزء من كتاب وتحقيقه ونشره منفردًا، وأول من بدأ ذلك مع مؤلفات ابن خالويه هو المستشرق برجستراسر؛ حيث استلَّ حواشي كتاب البديع الذي يتحدث عن شواذ القراءات وحقَّقها عملا مستقلا باسم «مختصر في الشواذ»، ثم أكثر الدكتور محمود جاسم الدرويش من الاستلال من كتاب «ليس»، ثم قمت باستلال بعض المؤلفات أو مختصراتها أو أجزائها كما سيأتي. وهناك أشكال خمسة من المستلات قابلتني في تراث ابن خالويه، هي: 1- استلال جزء من كتاب وصلت إلينا مخطوطته الكبيرة وتحقيقه ودراسته منفردًا، كما فعل محمد جاسم درويش مع كتاب ليس لابن خالويه. وفي الحكم عليه بأنه تنتيف نظر؛ لأنه استله من كتاب مخطوط ضخم، ولم يُقبِل أحد على تحقيقه كاملا حسب علمه، فظهور أجزاء منه للنور محقَّقةً خير من بقائه مخطوطًا. 2- استلال مؤلَّف قديم لأحد رسائله وتضمينها في كتاب، كما فعل ابن العَديم (ت660هـ) مع رسالة المحراب لابن خالويه التي استلها من أماليه التي ضاعت، فإعادة استلالها ونشرها مفردة ليس من التنتيف في شيء؛ لأنها تحتاج إلى دراسة مستقلة. تظهر من خلالها نتائج جيدة تضيف معلومات لجوانب ابن خالويه العلمية. 3- أو اختصار أحد كتبه وتضمينه في كتاب ويضيع الكتاب المختصر منه ويبقى المختَصر، كما حدث في رسالة الأيام والشهور لابن خالويه، الذي احتفظ به تذكرة النحاة لأبي حيان الأندلسي (ت745هـ) فاستلاله وتحقيقه ليس من التنتيف؛ فتحقيق كتاب «تذكرة النحاة» غير جيد، ويحتاج إلى إعادة تحقيق من جديد، وبه مختصر رسالة ابن خالويه في الأيام والشهور، ولا يوجد في مصدر غيره، كما أن المختصر يحتاج إلى دراسته وفحصه في بحث مستقل؛ ليبين أصالة آراء ابن خالويه اللغوية، وتأثره بالمؤلفات التي سبقته في الفن، وأسلوبه، وغير ذلك من الظواهر التي يشف عنها المختصَر، كما أن هذا النص لغوي لا يُستغنى فيه عن ضبط البنية، حتى يُفهم بشكل صحيح، ولم يضبطه محقق تذكرة النحاة ضبط بنية. كما أن من الفوائد التي تحدث من هذا الاستلال تركيز الدراسة على الجزء المستل بدقة، ومعالجته معالجة لم تتوافر للكتاب الذي استُلَّ منه. 4- إعلان ابن خالويه استحسانه ضم موضوع واحد جاءت معالجاته مفرقة في كتاب له، كما حدث مع نونية عدي بن زيد العبادي، وقصة الزَّبَّاء وجَذِيمة الأبْرَش في شرح مقصورة ابن دريد، فتلبية رغبته ليس من التنتيف في شيء. 5- أن يستطرد ابن خالويه في أحد مؤلفاته ويذكر أبوابًا لا علاقة لها بالكتاب فيرى الباحث استلالها وتحقيقها ودراستها حتى لا تظل ضائعة بين موضوع لا يمت لها بصلة، كما أنوي أن أفعل مع أحد مواد ابن خالويه بإذن الله تعالى، وربما هذا ليس من التنتيف؛ لأنه يسلط الضوء على جانب لم يظهر في مؤلفات ابن خالويه الأخرى، وللدكتور بكر أبي زيد -رحمه الله- عمل شبيه بهذا وهو «آداب طالب الحديث من الجامع للخطيب البغدادي»؛ حيث انتقى منه مقدمة المؤلف وانتقى من تراجمه ومن أقواله، وكوَّن كتابًا. انظر المجموعة العلمية، (ص211)، دار العاصمة، الرياض، ط1، 1416هـ. وستجد نموذجًا على الأقل لكل نوع من هذه الأنواع في قوائم مؤلفات ابن خالويه المستلَّة التي أهيئها للنشر بإذن الله، غير النوع الأخير لأنه لم يوجد بعد، ولا شك في أن حكم الدكتور بكر أبو زيد -رحمه الله- لا يصدق على هذه الأنواع كلها، فالمذموم منها الذي يصدق عليه حكم الدكتور بكر أبو زيد -رحمه الله- هو التدليس وعدم ذكر أن الكتاب مستل من كتاب آخر. فإذا كان لهذا الاستلال فائدة ملموسة، وكان الباحث جادًّا مخلصًا للبحث، وذكر حقيقة جهده وطبيعة الكتاب الذي ينشره للناس فخلاه ذمٌّ! ** ** د. محمد علي عطا - رئيس قسم اللغة العربية وآدابها - جامعة باشن العالمية المفتوحة بأمريكا
مشاركة :