يقول "محمود عبدالحليم" في كتابه "الإخوان المسلمون... أحداث صنعت التاريخ": "نزحت إلى القاهرة وموضوع ترجمة القرآن محتدم على أشده فلما اتصلت بالإخوان وجدت الأستاذ المرشد يهاجم فكرة الترجمة، وحجته في ذلك أن الترجمة مستحيلة لأن التركيب القرآني العربي في ذاته معجز للعربي حين يحاول فهمه، فهو يفهم منه بقدر طاقته في الفهم والتصور، وقد يفهم منه عربي آخر ما لم يفهمه الأول لأنه أوسع تصوراً، ويفهم من الآية في عصر من العصور ما لم يفهم منها في عصر سابق، والآية هي الآية والألفاظ هي الألفاظ، فالإقدام على ترجمة القرآن إقدام على مستحيل ومسخ للقرآن ونزول به عن مكانته مما يعد اعتداء على الإسلام في أقدس مقدساته.. وكان للإخوان على قلتهم في ذلك الوقت أثر ملموس في مهاجمة هذه الفكرة لأنهم كانوا الهيئة الوحيدة التي تهاجم علناً". (ص100). كان "محمود عبدالحليم" (1917-1999) من الرواد الأوائل ممن رافقوا "البنا" وعاصروا الأحداث منذ الثلاثينيات وسرعان ما اقتنع "محمود" برأي المرشد، غير أن اعتراضه على ترجمة القرآن لم يخل من وجاهة! يقول "محمود": وأذكر أنني بعد اقتناعي بهذا الرأي كتبت مقالة بمجلة الإخوان هاجمت فيها فكرة الترجمة من ناحية أخرى، وهي ما يرجوه الأزهر من ورائها، فقلت ما مجمله إن الأزهر إذا كان يرجو من وراء ترجمة القرآن أن ينشر الإسلام في بلاد لا يتكلم أهلها العربية فإن هذا وهم، فإذا كان دستور الدعوة إلى الإسلام هو قول الله تعالى: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن"، فإن الحكمة تقتضي أول ما تقتضي أن يكون الداعي موضع احترام المدعو، ولما كانت الأمم الإسلامية مازالت موضع احتقار الأمم الأخرى لأنها أمة متخلفة متأخرة جاهلة مستعمرة فإن الخطوة الأولى ليست هي ترجمة القرآن وإنما هي أن تتخلص مما هي فيه من أسباب الضعف والانهيار حتى تتبوأ مكانا محترما بين الأمم، وحينئذ تبدأ بتوجيه الدعوة إلى الإسلام وحينئذ تلقى قبولاً". (ص100). ومن الدراسات القيمة التي تناولت جماعة الإخوان كتاب معروف بعنوان "الإخوان المسلمون" للباحث الأميركي د. ريتشارد ميتشل نُشر عام 1969 وترجم الى العربية ونُشر عام 1979 برعاية كاملة من الإخوان أنفسهم. في الكتاب فصل يستوقف القارئ بعنوان "التلقين"، يتناول فيه د. ميتشل التعبئة الفكرية وتثقيفهم الديني في بداية التأسيس والفترة اللاحقة، ومما جاء في هذا الفصل، باختصار، "كان قسم نشر الدعوة مسؤولا عن تدريب المحاضرين الدعاة وكانت المساجد في فجر الدعوة بالأرياف أنجع الوسائل وأفيدها، وظل المسجد طيلة تاريخ الدعوة المكان الرئيسي الذي يمد الدعوة بجنودها على أن انتشار الجماعة في المدن الكبيرة وانضمام سكان الحضر أفواجا إليها دعا إلى إضفاء صفة الدنيوية على الخطابة". يضيف د. ميتشل عن بداية تركيز ثقافة الإخوان على الجوانب التاريخية والاقتصادية وغيرها فيقول: "كان موضوع المحاضرات بالقاهرة في أول عهدها "دينيا"، وكان المتحدث عادة البنا ذاته، يحاول شرح المعاني "الحقيقية" للرسالة النبوية من خلال تفسير مسهب للقرآن والحديث، وبنمو الجماعة، أخذ موضوع المحاضرات يتسع ليشمل تاريخ (الإسلام ومصر) والأمور الاجتماعية والاقتصادية التي تتعلق عموما بالنهضة الإسلامية المتوقعة كما شملت المحاضرات بطبيعة الحال تاريخ الدعوة نفسها، وكان البنا أثناء حياته الشخصية الرئيسة في هذا كما كان كذلك في سائر أوجه الدعوة". (ص329). ومع تطور وعي الإخوان، "حدث عام 1951 تغير ملحوظ في أسلوب الحديث، إذ لم يعد الأعضاء يقنعون بالتعميم والقواعد المجملة، وبدأ قسم نشر الدعوة يستغل مواهب الأعضاء المتخصصين في القانون والاجتماع والتعليم والكيمياء، والهندسة وعلم الحيوان". ويقول د. ميتشل، إن الإخوان بعد اغتيال المرشد، اضطروا بعد غيابه أن يتطلعوا إلى "الفئة المثقفة" التي لم تلجأ إليها حتى ذلك الحين، طالبة إليهم الإجابة عن التحديات المعقدة المتزايدة لمبادئها والصادرة من خارج صفوفها، وكانت محاضرات أمسية الثلاثاء اجتماعات شعبية، تعززها محاضرات تلقى على فئات خاصة من المستمعين كالعمال والطلبة والفنيين في ليال أخرى من الأسبوع". ويضيف د. ميتشل أن الجماعة رغم توسعها في المحاضرات العلمية، "لم يحدث أن قللت من شأن أثر البلاغة الخطابية، بل إن مقدرة "البنا" الخطابية بلغت شأواً يقربها من الأساطير، باعتبارها أحد العوامل في نمو الجمعية السريع، كما لاحظ أعضاء جمعية الإخوان أن البنا" كان دائماً يستقصي القوة الخطابية في من يختاره لشغل مراكز قيادية، وما حل عام 1938 حتى كان البنا قد نظم دراسات صيغية منتظمة للوعظ والإرشاد يشرف عليها بنفسه، وفي عام 1940 أصدر موافقته على كتاب ضخم يستعمله الإخوان في تعليم الوعظ كتبه عضو له سابقة عريقة، كتاب "تذكرة الدعاة" للبهي الخولي، واعتمد المؤلف في كتابه على القرآن والحديث والتاريخ وعلم الحياة والحوادث المعاصرة". (المصدر نفسه، ص 330). وللكاتب "حلمي النمنم" الذي تولى وزارة الثقافة في مصر بعض الوقت ملاحظة جديرة بالتأمل حول الجهد الثقافي للإخوان المسلمين، ذكرها في مقدمة كتابه عن حسن البنا، حيث يقول "النمنم": حاولت أن أقرأ رسائل البنا لكنها لم تستهوني، فلم أجد فيها حرارة أسلوب سيد قطب وصوته، ولا لمحت فيها جهد البحث والعالم كما هي الحال في بعض أعمال الشيخ محمد الغزالي التي أتيح لي قراءتها في ذلك الوقت- في نهاية السبعينيات- حين كنت في مرحلة الدراسة بالجامعة". ويضيف "النمنم": "كنت ألاحظ حب الإخوان الذي يصل حد التقديس لمرشدهم حسن البنا"، ومن ملاحظات "النمنم" المهمة قوله: "ومن يراجع سجل الإنتاج العلمي وأعمال الإخوان لن يجد أنهم أصدروا كتابا يمكن الوقوف أمامه عن حياة وسيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولا كتاباً ذا قيمة عن أبي بكر الصديق، أول الراشدين والذي لولاه لتبدد الإسلام بعد وفاة النبي، وهكذا الحال بالنسبة الى شخصيات عظيمة ومؤثرة في تاريخ الإسلام كله، بينما أصدروا العديد من الكتب والدراسات عن حياة البنا وسيرته، ومنحوه صفات مذهلة يصعب أن تجتمع في إنسان، وكانت بعض الآراء فيه والتصورات عنه تحمل قدرا من الشطط، وفي كل مؤتمرات جماعة الإخوان المسلمين وندواتهم ومطبوعاتهم تجد صور حسن البنا وبعض كلمات له ولن تجد شيئا من ذلك بالنسبة الى من تلاه من مرشدي الجماعة". (حسن البنا الذي لا يعرفه أحد، حلمي النمنم، القاهرة 2013، ص 5-6) ويشكك المؤلف "النمنم" استنادا إلى الوثائق التي نشرها شقيقه "جمال البنا"، أن تكون حركة الإخوان قد تأسست عام 1928 كما يقول الإخوان، أي بعد وصول البنا إلى الإسماعيلية بقليل، ويقول "النمنم": "حسن البنا ظل يتحدث عن الجماعة باعتبار أنها تأسست سنة ١٩٢٨م، وتبعه في ذلك كتّاب الجماعة ومعظم المؤرخين لها، لكن هناك وجهة نظر أخرى تقوم على أن الجماعة تأسست في العام التالي، أي سنة ١٩٢٩م، عام الأزمة الاقتصادية العالمية. وأصحاب هذا الرأي يؤسسون موقفهم على أن البنا لم يكن ممكناً أن يؤسس «جمعيته» فور وصوله إلى الإسماعيلية، طارئا عليها وغريبا، لكن إذا اتخذنا اللائحة الأولى، وهي وثيقة رسمية، معيارا للتأسيس فإن «جمعية الإخوان المسلمين» تأسست سنة ۱۹۳۰م وليس قبل ذلك بعامين كما هو سائد، ولا قبلها بعام کما یذهب بعض الدارسين الغربيين خاصة؛ ولأن الجمعية كانت مغمورة ومؤسسها كذلك، فلن نجد أي خبر في الصحف عنها لحظة التأسيس، ولو أن هناك خبرا بهذا المعنى لحسم لنا تاريخ التأسيس. وهكذا طبقا للائحة المتاحة فإن الجماعة رأت النور في العام ۱۹۳۰م". (ص26) ويختلف "النمنم" مع الإخوان في تقديس مرشدهم، ويقول: فقد اختلف معه بعض الإخوان وانشق عنه بعضهم، وهاجمه عدد منهم، وصل الأمر أن أحمد السكري، الذي كان الرجل الثاني في الجماعة وشريك حسن البنا في تأسيسها ورفيق عمر البنا اتهمه بالكذب وبأشياء أخرى، وطعن بعضهم في ذمته المالية، واتهمه كل من انشق عن الجماعة بالتسلط والدكتاتورية، وأنه يتحدث عن الشورى لكنه لا يعملها بالمرة، أما بعد عودة الإخوان إلى النشاط في السبعينيات فقد اجتهدوا في تقديم مرشدهم الأول، في صورة الإنسان المثالي، لن تسمع منهم أنه وقع في هفوة أو ارتكب خطأ ولو صغيراً" (ص6). يتبع غداً،،،
مشاركة :