حول ما تُحدِثه الموسيقى الكلاسيكيّة وعمّا تصل إليه بعيدًا، عقدت هيئة البحرين للثّقافة والآثار محاضرة بعنوان (آفاق الموسيقى الكلاسيكيّة) التي قدّمها المؤلّف الموسيقيّ وعضو دار الأوبرا المصريّة محمّد صالح، وذلك مساء اليوم (السّبت، الموافق 10 أكتوبر 2015م) بحضور رئيس هيئة البحرين للثّقافة والآثار معالي الشّيخة ميّ بنت محمّد آل خليفة وعددٍ من المهتميّن بفنّ الموسيقى والمثقّفين. هذه النّدوة شكّلت الحديث الأوّل حول الموسيقى في سياق مهرجان البحرين الدّوليّ للموسيقى 24، والتي من خلالها انعطف المؤلّف الموسيقيّ محمّد صالح إلى التّجربة المصريّة وصناعة فنون الموسيقى والأوبرا هناك، مستبقًا حديثه باستحضارٍ للموسيقار العالميّ شوبان عبر شيءٍ من مقطوعاته الشّهيرة، ثمّ قال: (الموسيقى يمكن أن تعبّر دونما كلماتٍ عن مواقف وأحاسيس وكتلٍ وأشكالٍ). من هذه المحطّة كانت البداية لسيرةٍ موسيقيّة ثريّة اختبرها الفضاء الثّقافيّ المصريّ منذ العام 1869م، وذلك مع تأسيس أوبرا القاهرة إبّان عهد الحاكم المصريّ آنذاك الخديوي إسماعيل. وعن هذا التّأسيس، أكّد المؤلّف الموسيقيّ صالح أنّ الشّعب المصريّ آنذاك لم تكن له علاقة حقيقيّة بعد بفنون الأوبرا والأوركسترا، إذ كانت أوبرا القاهرة تستقطب الحاشية الملكيّة، الطّبقة الأرستقراطيّة والنّخب الثّقافيّة الرّاقية، مشيرًا إلى أنّ الأوبرا استضافت على خشبتها الطّبقة الرّفيعة من مطربي مصر مثل أم كلثوم وعبدالوهّاب. على المستوى الآخر، كان يقابل هذه الأوبرا مسرح الأزبكيّة الذي اكتفى حينها بتقديم عروضٍ لعامّة الشّعب المصريّ، وهو ما أحدث تباينًا بين المشهدين، حيث كانت الأوبرا تستضيف عروضًا أوركستراليّة وأوبراليّة أجنبيّة بالإضافة إلى فرق باليه عالميّة. كما قد استعرض المؤلّف الموسيقيّ تصميم أوبرا عايدة الذي لم يكتمل بسبب عدم وصول الأزياء والدّيكور لظروف الحرب في أوروبّا، مبيّنًا أنّه قد تمّ استبدالها لاحقًا بالعرض العالميّ الرّيجوليتو للموسيقار العالميّ فيردي. ومرورًا بثورة 1952م، انتقل السّيّد محمّد صالح إلى التّغييرات الثّقافيّة الحاصلة في مصرـ، إثر استلام د. ثروت عكاشة لمنصب وزارة الثّقافة آنذاك، حيث أُنشئت في عهده أكاديميّة الفنون في مصر، وذلك في سعيه لسدّ الفجوة ما بين التّحدّيين القائمين حينها، فيما يتعلّق بوجود أوبرا للنّخب والأرستقراطيّين، وانسياق الشّعب المصريّ بعامّته إلى فنون دون المستوى الثّقافيّ. وقد أكّد المحاضر أنّ د. عكاشة استطاع من تجاوز هذه الفجوة عبر إعداد كوادر موسيقيّة وطنيّة تشغل هذا الفراغ وتعالج الإشكاليّة الثّقافيّة، مؤكّدًا أنّ هذه الكوادر تمكّنت من التّأسيس لنهضة ثقافيّة فنّيّة في أواخر السّتينيّات من القرن الماضي، ومن هذا المنفذ أصبح المصريّون جزءًا من المشهد الفنّيّ المحليّ لجمهوريّة مصر. غير أنّ هذه النّهضة سرعان ما أُحبِطَت في العام 1974م إثر التّطوّرات السّياسيّة وطرد السّوفييت، ممّا أدّى إلى انسحاب الموسيقيّين الرّوس وتشكّل فجوة فعليّة في التّعليم. وقد تزامن ذلك مع التّبدّل الاقتصاديّ الذي كان يفرض الفنّ الأكثر مبيعًا، وعليه أصبح المسرح التّجاريّ هو السّائد في تلك المرحلة التّاريخيّة، وتراجعت في المقابل دور الأوبرا وعروض الباليه. ومن عموم التّجربة الفنّيّة المصريّة إلى تجربته الشّخصيّة، تناول المؤلّف الموسيقيّ محمّد صالح سيرته، موضّحًا تأثّره بالانتقال ما بين روسيا موضع دراسته، وأميركا حيث عمل معيدًا أكاديميًّا، وأخيرًا إلى بلده مصر في العام 2000م حيث انضمّ إلى الأوكسترا السّيمفونيّة المصريّة التي كانت تعمل وفق نظامٍ صارمٍ أسهم عميقًا في تكوين توجّهه الموسيقيّ والفنّيّ. وقد اختتم صالح محاضرته بالحديث حول أهميّة الاستدامة، وارتباطها بالمناهج التّعليميّة وبالوسائل الإعلاميّة، مع التّشديد على ضرورة تكوين أجيال موسيقيّة يبدأ العمل معها وفق خطّة واضحة منذ المراحل الأولى، وقال: (الموسيقى ضرورة حياتيّة. إنها وسيلة للتّعبير عن مختلف الأفكار، وهي لغةٌ عالميّة).
مشاركة :