عند تخرجي من المرحلة الثانوية قررت الذهاب للدراسة في اليابان. لم يكن سهلاً أن أقنع عائلتي بعدم دخول الطب أو الاعتذار عن القبول ببرنامج الابتعاث لدراسة الهندسة في الجامعات الأميركية مع شركة أرامكو العريقة. كان لدي شغف بمعرفة الجواب كيف استطاع أصدقاؤنا اليابانيون أن يصنعوا معجزتهم التنموية والاقتصادية بعد الحريق النووي في هيروشيما وناجازاكي إبان الحرب العالمية الثانية. وفعلاً ذهبت إلى طوكيو ودرست اللغة والتحقت بعدها بالجامعة. عرفت أن ما كان يقال في العالم العربي إن احتفال اليابانيين بالتخلص من آخر إشارة مرور مجرد إشاعة وكذبة كبيرة. لم أجد أطفالهم وشبابهم يحملون الروبوتات وأجهزة الحاسوب في أيديهم كما كنت أتصور، بل كانوا يحملون مجلات المانجا ويشاهدون الأنيمشين (الرسوم المتحركة اليابانية). في عام 2002م، عندما كنت طالباً في الجامعة طُلب مني أن أدير مشروعاً لمؤتمر فيديو عبر الأقمار الصناعية بين الطلبة المتفوقين في السعودية واليابان نظمه النادي العلمي السعودي وقتها وكان بتشريف سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- والذي كان في حينها أميراً لمنطقة الرياض. سأل الطلبة السعوديون نظراءهم اليابانيين: «كيف قامت اليابان ونجحت في النهوض من الرماد بعد الهزيمة في الحرب العالمية الثانية؟» تفاجأ الحضور السعودي بالمتفوقين اليابانيين يعرضون على الشاشة شخصيات رسوم متحركة يابانية. ولكم أن تتصورا الصدمة الكبيرة لدى الحضور وما زلت أتذكر أن عدداً من الإعلاميين والتربويين السعوديين لم يخفوا امتعاضهم وتضايقهم، وكأن الجانب الياباني لا يأخذ ذلك السؤال على محمل الجد. ولكن كان اليابانيون في حقيقة الأمر جادين فعلاً وهم يعرضون تلك الشخصيات التي ألهمتهم وزرعت بهم الثقة والأمل ليبدعوا وينجزوا ويتفوقوا عالمياً. في الواقع صارت صناعة المانجا أو الرسوم المتحركة أو المحتوى عموماً، من الصناعات الاستراتيجية والمهمة للغاية. أنت لا تبيع منتجاً أو تصدر ثقافة وتعزز تواصلاً حضارياً فحسب، بل في حقيقة الأمر تشكل وعياً وذاكرة جمعية لأجيال وأجيال من بعدها وتغرس فيها قيماً ومبادىء وأحلاماً. فرق كبير بين أن يشاهد الطفل والشاب محتوى بجودة عالمية يقدم بطلاً يفتخر فيه من ثقافته ووطنه وبيئته يصارع ويتحدى حتى ينتصر وهو ثابت على مبادئه وإيمانه، شتان ما بين ذلك وبين محتوى يقدم صورة مغلوطة للعالم ولأبنائنا عن ثقافتنا ومجتمعنا من وجهة نظر شركات الإنتاج الأجنبية والمؤسسات الإعلامية الخارجية. وختاماً، كان البعض يظن أنه من المستحيل أن تقوم شركة سعودية أو عربية مثل مانجا للإنتاج التابعة لمؤسسة محمد بن سلمان الخيرية «مسك» ويبنى فريق من المبدعين السعوديين ويطلق فيلم أنيميشن سينمائياً بأعلى المواصفات العالمية يحقق الوصول والانتشار في أقل من أربع سنوات. فيلم الرحلة هو نموذج لقدرة الشباب السعودي وعزيمتهم وإيمانهم برؤية قيادتهم الملهمة وحبهم لوطنهم الغالي. وكلي ثقة بأن هذا الجيل بحول الله سيحقق المعجزة السعودية المتمثلة في رؤية 2030م وما بعدها في مختلف المجالات التنموية. وسيأتي الدور على أصدقائنا من اليابان وبقية دول العالم ليدرسوا ويحللوا كيف صنع السعوديون معجزتهم الاقتصادية والتنموية.
مشاركة :