إلى أين يسير العالم والعنف «أعدل» الأشياء قسمة بين الناس؟

  • 10/11/2015
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

قد يستغرب البعض من أن العنف لم يكن موضوعا مستقلا للتأمل والتفكير الفلسفي في التراث الغربي والعربي على السواء، إذ تشير بعض المصادر إلى أن بداياته الأولى كمبحث مستقل للبحث والدراسة تعود تحديدا إلى عام 1908 مع المفكر جورج سوريل (Georges Sorel) في كتابه "تأملات حول العنف" (Reflexions sur la violence). قابلة التاريخ صحيح أن بعض الإشارات إلى العنف متناثرة في التراث الفلسفي الغربي، منها على سبيل المثال "أن الأشياء من لحظة ولادتها تخضع لقانون الضرورة أي للفناء الحتمي.. ذلك أنها تتناوب العدوان – العنف على بعضها بعضا عبر القصاص والتكفير عن المظالم" التي تعود إلى أناكسيماندر (Anaximandre) أحد فلاسفة اليونان. وكذا "العنف هو أبو وملك كل شيء" قول شهير لهرقليطس (Héraclite)، عين العبارة خلدها رفيق كارل ماركس فريدريك إنجلز (Friedrich Engels) حديثا في متن البيان الشيوعي بقوله "العنف هو قابلة التاريخ". مهما يكن من أمر، يمكن القول ودون مبالغة بأن مفهوم العنف وليد زمن الحداثة بامتياز، إذ بالعودة إلى معجم لالاند الفلسفي نجد فيه أن العنف يرادف الاستخدام غير المشروع، أو على الأقل غير الشرعي – القانوني للقوة. وحين نضع هذه المفاهيم بمعية أخرى من قبيل المواطنة، الحرية، المساواة.. في سياقاتها التاريخية ندرك تماما بأننا في الحقبة الحديثة من تاريخ البشرية. تدريجيا بدأ الموضوع يفرض نفسه في دوائر البحث وحلقات النقاش الفكري حتى صار العنف أحد موضوعات العصر بلا منازع، في السياسة والدين، في الإعلام والفن، في الرياضة والثقافة... وتعود الوضعية الاستثنائية لانتشار العنف في العالم المعاصر، سواء بين الدول والدول، أو بين الجماعات داخل المجتمع الواحد، أو بين الأقلية والأكثرية، أو بين الدول والأفراد، إلى تحوله من عنف يشن بناء على مصالح سياسية أو اقتصادية أو غيرها إلى عنف يؤسس على اختلافات دينية أو ثقافية أو هوياتية ممزوج بهالة السعي نحو التحكم والسيطرة بإقامة الآنا، ونفي الآخر/الغير المخالف والمختلف. عصر التطرف طوفان العنف البشري عم في البر والبحر والجو بأيدي الناس، واستفحل معه عنف الجغرافيا بِحَرِها وبردها وعواصفها وفيضاناتها وزلازلها وبراكنها. لكن بإمكاننا أن نتبين أن عنف الجغرافيا في أحيان كثيرة يكاد يكون أهون من عنف البشر، بحيث يبدو أرأف وأرحم في عنفها ببني البشر من بني جلدتهم. الاتجاه التصاعدي لرقعة من العالم في مدارج المدنية لا ينبغي أن ينسينا الإخفاقات التي تلتهب باستمرار في باقي الجهات. حقيقة اتساع دوائر العنف استرعت انتباه بعض المثقفين في الغرب، فالخوف من التطرف وصراع الهويات دفع المؤرخ إريك هوبزباوم (Eric Hobsbawm) إلى تسمية القرن الـ20 بـ"عصر التطرفات"، بل ولم يتردد في عنونة أحد كتبه بذات الاسم (The age of extremes: the short twentieth century). من جهته رأى إيريك فروم (Erich Fromm) بأن للعنف الذي يجتاح العالم أبعادا نفسية يمكن للتحليل النفسي المعاصر أن يشرحها، ويبين آليات تأثيرها على واقعنا المعاصر. أما الفيلسوف المعاصر إدغار موران (Edgar Morin) فقد طرح مؤلفا كاملا بصيغة استفهامية مثيرة عن مستقبلنا "إلى أين يسير العالم؟" متهما أوروبا والغرب عموما بالبربرية والتوحش، ومحذرا في ذات الآن من ويلات العنف التي أخذت تهدد حاضر ومستقبل العالم. بينما طرح آخرون، ومن زاوية نظر مغايرة، مقترحات لتنقية العالم من رقع العنف ومستنقعات الدم التي تتسع يوما بعد آخر، فهذا رائد الجيل الثالث من مدرسة فرانكفورت ومديرها الحالي أكسيل هونيث (Axel Honneth) يؤسس لثقافة الاعتراف، ويدعونا إلى تكريسها وقبول الآخر المخالف. أما دييتر سنجاس (Dieter Senghaas) فقد حرص على التنبه لخطر "الصدام داخل الحضارات"، وما يتمخض عنه من عنف متزايد إن لم تسد ثقافة الحوار بين الثقافات والأديان ويدرك الجميع أهمية التعايش. تطبيع العنف لم تحل نبوءات هؤلاء وتحذيراتهم غيرهم من ازدياد منسوب العنف التي يتهدد العالم اليوم وبأنماط وأشكال متعددة، دون تفاقمه مع تضافر أحدث وسائل عالم التكنولوجيا وتقنيات الفضاء المفتوح لنجد أنفسنا أمام عنف معولم على شاكلة "عولمة الاقتصاد" و"عولمة السياسية".. فصرنا أمام ظاهرة تدويل العنف وعنف عابر للقارات يغمر العالم بأركانه الأربع، ودول أقامت جزءا كبيرا من شرعية زعمائه على العنف، حتى غدا التطبيع مع العنف (أفرادا، جماعات، دولا) أمرا عاديا في حياتنا اليومية، بل إن نشرات الأخبار تفقد طعمها- لدى بعضنا- إن لم تتضمن أخبارا عنيفة ووقائع دموية، كانت حتى الأمس القريب مجرد لقطات نراها من حين لآخر في أفلام سينما الحركة (Action) القادمة من هوليود. هذا التطبيع مع العنف لم ينحصر بين العامة فحسب، إذ تعداها إلى النخبة وجمهور المثقفين ممن يتوقع فيهم أن يكونوا في طليعة مجتمعاتهم، فقد بين توماس سويل (Thomas Sowell) في كتابه "المثقفون والمجتمع" أن أعداد المثقفين المؤيدين للحروب بوصفها الوسيلة الأنجع لحل الخلافات لا يستهان بها. الحرب التي اعتبرها غاستون بوتول (Gaston Bouthoul) شكل من أشكال العنف المنهجي والمنظم، المحدود في الزمان والمكان، والخاضع لقواعد قانونية خاصة شديدة التغير حسب الأمكنة والعصور. صنع الحياة الاتجاه التصاعدي لرقعة من العالم في مدارج المدنية والتحضر لا ينبغي أن ينسينا الإخفاقات المستمرة والبراكين المتوقدة التي تلتهب باستمرار في الجهات الأربع للعالم، حتى صرنا أقرب ما نكون إلى تجسيد قولة الفيلسوف الفرنسي آلان تورين (Alain Touraine) ذات يوم "إن الوحشية تتفجر من أجل إبطال إنسانية الكائن الإنساني، من أجل تسحق وجهه وتحوله إلى كتلة دامية من لحم وعظام ليس فيها شيء من الإنسانية. فإذا كان العنف نقيضا للمجتمع، فإن الوحشية نقيض للذات الفاعلة". نعم فعالم عولمة العنف الذي انخرطت فيه الدول والتنظيمات (العنف والعنف المضاد) وصل مستوى إبعاد الإنسان عن التفكير بوصفه "صانع حياة"، وعن البحث عن كل ما هو مشترك مع الآخر، إلى تذكية مزيد من العدوانية، وتكوين صورة همجية وقاسية عن الآخر المخالف ثقافيا، هوياتيا، لغويا، دينيا، فكريا... إننا نعيش أقوى لحظات عولمة العنف - والقادم أسوأ على ما يبدو بفعل التطور الشبكي والتكنولوجي- ولم تعد أطراف كثيرة، بعيدة أو قريبة، تمتلك رفاهية البعد أو الانعزال عنه؛ خصوصا من اعتادوا حتى الأمس القريب أن ينسبوا العنف إلى الشرق (الاستبداد الشرقي) والليونة والتسامح إلى الغرب، مثلما نسبوا اللاعقل والميتولوجيا والخرافة إلى الشرق والعقل واللوغوس والتفكير إلى الغرب، وكما نسبوا الركود والتخلف إلى الشرق والدينامية والتقدم إلى الغرب. لكل هؤلاء وغيرهم نقول إن كان للشرق هولاكو والحجاج، فإن للغرب نيرون وهتلر: فالعنف أعدل الأشياء قسمة بين الناس.

مشاركة :