توفي المخرج صلاح أبوسيف في مثل هذا الشهر في ٢٢ يونيو ١٩٩٦. .. مخرج الواقعية المصرية صاحب أفلام ؛ «الأسطى حسن» و«الفتوة» و«ريا وسكينة» و«الوحش» و«شباب امرأة» و«لا تطفئ الشمس» و«القاهرة ٣٠» و«الزوجة الثانية».. و لكن قليلون هم الذين يعرفون أن صلاح أبو سيف قد عمل فى السعودية بدعوة من الملك فهد .. عن هذه الزيارة ..كان لنا حوار مع المخرجين الكبيرين : رضا شوقى مدير عام تقييم أداء الشاشة في التليفزيون المصري ، والمخرج كمال مطر المستشار في الهيئة الوطنية للإعلام ، وهما الشخصان اللذان عملا مع صلاح أبو سيف وعرفاه عن قُرب . 1- أستاذ رضا …أحكِ لنا كيف عرفت أنك ستعمل مع المخرج الكبير صلاح أبو سيف ؟ فى ربيع سنه 1984 ..كنت أعمل مع الأستاذ يوسف شريف رزق الله السينمائي على واحدٍ من أهم البرامج التليفزيونية، وهو برنامج أوسكار، مع الرائعة سناء منصور، في التليفزيون المصري .. فأتى فى أحد الأيام و سألنى : هل تُحب أن تشتغل مع صلاح أبوسيف !؟ لم أصدق أذني وسألته «بتقول مين !؟» قال : صلاح أبو سيف ..هو سيعمل فيلمين فيديو في السعودية، عن مهرجان جديد عن التراث السعودي، اسمه «الجنادرية» . .وفيلم ثانٍ عن الحرس الوطني اسمه «تمرين العرين» للأمير عبدالله ( أصبح فيما بعد الملك عبدالله رحمه الله ) والأستاذ صلاح أبو سيف يحتاج أشخاص تُجيد العمل فى مجال الفيديو ، فرشّحتك أنت والزميل كمال مطر … انبهاري بالأستاذ صلاح أنسَاني أن أسأل عن أي حاجة ثانية ..و تقابلنا في مقهى في شارع قصر النيل … وبسرعة وجدت نفسي في السعوديه مع الزملاء وعلى رأسهم مدير التصوير العظيم “عوني جعفر” … 2- و كيف قابل الشعب السعودي صلاح أبو سيف ؟ نزلنا في «فيلا» الحرس الوطني في الرياض في حي “الملز” ..وفي السعوديه كانوا منبهرين بالأستاذ صلاح أبو سيف وبأفلامه ..وكانوا مجرد أن يروه فى أي مكان ، يسلمون عليه فوراً بشوق وحب وترحيب، ويسألونه عن أفلامه، ويدعوننا لنجلس معهم .. لدرجة أن واحداً منهم فكّره ببعض الأفلام التي كان الأستاذ قد نسي تفاصيلها أصلاً. 3- سمعنا كثيراً عن تواضع الأستاذ صلاح …ما حقيقة ذلك؟ ….هو إنسان متواضع جداً.. في إحدى الجلسات المسائية تم عرض شريط فيديو (- وكان الفيديو مازال اختراعاً جديداً وأول مرة كنت أشاهده في حياتي كانت في السعوديه ) – شاهدنا فيلم «وسقطت فى بحر العسل» من بطولة نبيلة عبيد، وكان معظم فريق العمل لديه ملاحظات سلبية جداً على الفيلم، والبعض جامل أكثر وأخذ يشتم الفيلم وإخراجه، معتقدين أن صمت الأستاذ صلاح هو موافقه ضمنية على صحة ملاحظاتنا، باعتبار أن – السكوت علامة الرضا – وكان الأستاذ صلاح جالساً بصمت تماماً .. وفجأة انتهى الفيلم ورأينا أنه كُتب «إخراج صلاح أبو سيف» … كنّا فى منتهى الإحراج طبعاً – «يا أرض انشقي وابلعينا» – ولكنّه بمنتهى الهدوء والثقة امتصّ خجلنا جميعاً، وشرح لنا ظروف إخراج الفيلم، ونهض قائلاً تصبحون علي خير …. بمنتهي الرقي وسعة الصدر وتقبل للنقد ، مع أننا كنّا كلنا صغار في السن جداااً “في العشرينات” وليس لنا خبرته الكبيرة فى الإخراج طبعاً… !؟ و أيضا أقول لكم أن موقف هذا العملاق كان في منتهى التواضع، فهو ليس له أي طلبات في المأكل والمشرب، وحتى ملابسه كنا نغسلها مع بَعضنَا في غسالة كبيرة موجودة ومتاحة للجميع…لدرجة أني أنا كنت أغسل ثيابه مع ثيابي، لأنه كان يصعب عليَّ، فهو كان يومها كبيراً في السن .. وكان «بيتكسف جداً» ويقول لي: «لا يا رضا مايصحش تعمل كده» فكنت أخطفهم منه وأقول له : «ده شرف ليَّ أن هدومي وهدومك يتغسلوا مع بعض ، علشان أنعدي منك وابقى مخرج مشهور ».. فكان يضحك في خجل. 4- أستاذ كمال: ..أراك تضحك ..لذا دعني أسألك هل التصوير فى السعودية كان متعباً ؟ الأستاذ رضا ذكّرنى بموقف الفيلم الأخير، وكان موقفاً محرجاً جداً …ولكن … شدّينا الرحال على الجنوب السعودي «بيشة» وصورنا مناورة للحرس الوطني السعودي، وهناك تعلّمت منه كيف تخلق معركة من لاشئ، وذاك كان عن طريق «كسر الأكس» أو كسر الخط الوهمي .. وهي مسألة فنية جداً وتحتاج حِرفية إخراج لايملكها إلّا خبير وصاحب خبرة مثل الأستاذ صلاح.. و أيضا كان هناك مشهد لتفجير مدرعة.. فأحضر لنا الحرس الوطني مدرعة حقيقة ثمنها يفوق المليون ريال، و كان المفروض أن يتم تفجيرها في أحد المشاهد، و لكن المخرج العبقري صلاح أبو سيف، استخدم مدرعة (لعبة) استوردها خصيصاً من الخارج … وفجّرها باستخدام لغم أرضي، وصوّرها بعدسات Telephoto من على مسافة كبيرة بالتصوير البطيء «سلو موشن» slow motion. فظهرت كأنها تفجير حقيقي ووفرنا ثمن المدرعة.. .. و فجأة قامت عاصفه ترابية هدّت كل الديكور الذي عملناه … وكأننا لم نعمل أى ديكورات طوال اليوم. فتضايقت أنا جداً .. .. ولكن الأستاذ صلاح بمنتهي الهدوء والثقة قال : « أوقف التصوير ونكمل لما يكونوا جاهزين» !!؟ و كان معنا المهندس العبقري محمد عبد الستار ، الذي أحضروا له أتوبيساً كاملاً ل 28 راكباً، و طلبوا منه أن يحوّله إلى سيارة بث إذاعة خارجية… وفعلاً فككها بالكامل، و فكّ الكراسي وخلال أسبوع حوّلها إلى سيارة إذاعة خارجية، ووضع فيها كافة المعدات .. 5- أستاذ رضا : كيف قابلتم الملك فهد بن عبد العزيز …و الأمير عبد الله، رحمهما الله ؟ لابد أن أقول إن كرم السعوديين فائق .. ومن محبتهم للأستاذ صلاح دعانا الملك فهد إلى مأدبة غداء كبيرة جدااااً على شرف المشروع.. وكان ضيف الشرف هو النجم الأستاذ صلاح أبو سيف .. وكانت مأدبة غداء الملك فهد في خيمة مكيّفة .. وكانت أول مرة في حياتي أرى فيها خيمة مكيّفه . ومساحة الخيمة كانت تقريباً مثل المسافة من مبنى «ماسبيرو» إلى العباسية. – [ ] وكان الملك فهد على رأس المائدة وفي جواره الأمير عبدالله وقريباً منهم صلاح أبو سيف … وإن السعوديين يمنعون تصوير الطعام نهائياً ويعتبرون ذلك حرام… .. الأستاذ صلاح جلس بالقرب من جلالة الملك، ولا أذكر أنه تكلم كثيراً أو استعرض أمجاده، أو أي شئ من هذا القبيل – كما يفعل أشباه المخرجين اليوم . والنقطة الأخرى ..الأكل … كانوا يصلّون الفجر في الصحراء، و بعدها يذبحون خاروفاً ويفطرون به ..(السعوديون طوال حياتهم أهل كرم، لكن كانت أول مرة أحتك بهم عن كثب) .. أنا أصابتني مشكلة من كثرة الأكل . 6- ما قاله أستاذ رضا يخالف بعض الأصوات التى تنادى أن السعودية لا تهتم بالسينما ؟ ما رأيك أستاذ كمال ؟ كانت الصحف والمجلات مهتمة بإجراء أحاديث صحافية معه كنجم سينمائي له شهرة ومحبة خاصة لدى السعوديين. .وذات يوم تقابلنا مع واحد من الجمهور السعودي، الذي اندهش برؤية الأستاذ صلاح وقال بدهشة وإعجاب عندما رآه : «أبو سيف!!! النجم العالمي بالسعودية، ..ده يوم عيد لنا كلنا ».. وابتسم الأستاذ صلاح بهدوء وخجل كعادته. وللعلم بعد عودتي إلى مصر.. تعب الأستاذ صلاح أبو سيف وسافر إلى سويسرا… هناك طلبت السعودية منه مونتاج الحلقات.. فأرسل إلي وطلب مني الذهاب الى الحرس الوطني السعودي، للحصول على فيزا ، والعودة إلى السعوديه لتكلمة المونتاج.. وبالفعل سافرت إلى السعودية… واتصلت بالأستاذ صلاح في سويسرا وأرسلت له نسخة، عن الجزء الذي قمت بعمل المونتاج له… فأرسل أهم شهادة في حقي، بكلمة واحدة تلغرافياً من سويسرا «أكمل». و كانت تلك أهم شهادة حصلت عليها في حياتي، أن يثق في عملي العملاق صلاح أبو سيف .. فلو كان الشعب السعودى لا يهتم بالسينما كما يقولون، لما كانوا أصرّوا على الانتهاء من المونتاج . و اسمح لى أن أذكر قصة شهادة للتاريخ عن عظمة الملك عبد الله .. بعد انتهائي من التصوير، أبلغوني أنيّ سأتسلم الباقي من حسابى فى مصر، لأن طيارتي كانت الساعه الواحدة ظهراً ..و لكني رفضت ..و طلبت مقابلة الأمير عبد الله.. كنت أتوقع رفضاً ولكني فوجئت أننى أدخل لمقابلته..وقد استقبلني بترحاب شديد جداً ..وأصرّ على أن أشرب القهوة، وقبل أن أنتهي من قهوتي، كان مبلغ بقية أتعابي موجوداً أمامي..لدرجة أنه أمر بتغيير تذكرة الطائرة من الساعة 1 حتى السادسة مساءً، لكي يتأكد من أنني اسلمت باقي حسابي بالكامل …هذه شهادة مني أمام الله عن عظمة و تواضع سمو الامير … 7- و ماذا حصل بعدها ؟ أنا كنت مع الأستاذ صلاح كتلميذ في فيلم «البداية» بطولة أحمد زكي وأحمد راتب ، قبل السفر إلى السعودية … و أذكر بعد العودة من السعودية بفترة وجيزة ، أنه تم تكريم صلاح أبو سيف في معهد «جوته» الألماني بمناسبة تلوين فليم «الزوجه الثانية» في معامل ألمانية .. وحضر كبار النقّاد والفنانين و كثير من الجمهور.. وقد سألته سؤالاً خبيثاً.. تُفضّل الفيلم أبيض وأسود أم بالألوان..؟ أجاب الفيلم الأبيض والأسود عبّر عن الريف وعبّر عن الألم الذي به.. عكس الفيلم بالألوان، لذا أُحِبّه أبيض وأسود . 8- أستاذ رضا هل قابلت الأستاذ صلاح بعدها ؟ تم الانتهاء من الأفلام ورجع الأستاذ صلاح إلى القاهرة لتصوير فيلم «البداية» مع يسرا وأحمد زكي، وذهبت إليه في منزله في جوار مسرح الجمهورية، وطلبت أن أشتغل معه في الفيلم، ورحّب بي كمتدرب في الفيلم، لأن أسلوب السينما يختلف عن الفيديو كثيراً، وفعلاً نزلت معه يوماً واحداً في التصوير، وكانت تجربة رائعة، وللأسف انسحبت لارتباطي بالعمل في فوازير شريهان، مع فهمي عبد الحميد، وكنت من المحظوظين في العمل مع عمالقة السينما والفيديو..الله يرحمهم جميعاً…و يُسكن الأستاذ صلاح الجنة جزاء تواضعه الكبير.
مشاركة :