تقديم: عن دار "العهد للنشر والتوزيع" بالقاهرة /مصر صدرت رواية "ذكريات الأمكنة" للكاتبة آية ياسر في 289 صفحة من الحجم المتوسط/طبعة أولى 2021. والمؤلفة آية ياسر صُحفية تتعامل مع عدد من الصحف المصرية والخليجية وتكتب الرواية والقصة وأدب الطفل ولها مجموعة من الإصدارات من بينها رواية "ضائعة في دهاليز الذاكرة" سنة 2014 ورواية "همس الأبواب" سنة 2017. عتبة العنوان: اختارت المؤلفة عنوان "ذكريات الأمكنة"، الأمكنة جمع مكان وهو عنصر مهم لا يخلو منه أي عمل أدبي وخاصة سردي والكاتبة هنا تحول المكان بما هو موضع للشيء فتؤنسنه وبذلك تجعل منه شخصية فاعلة في هذه الرواية بل ومؤثرة، بمعنى أن أحداث وشخصيات تحدث تغيرات مختلفة في الأمكنة فتصبح بدورها حاملة لذكريات تمنح تلك الأمكنة معان ودلالات بل وهذا ما يجعل منها بمثابة شخصيات لها حضورها القوي وتأثيرها الشديد في مسار الأحداث وفي تفاعل الشخصيات في الرواية. أضافت المؤلفة اية ياسر عنوانا فرعيا "ورود من نار"، هنا نلاحظ ان المؤلفة لم تهتم بالنار وفضلها على البشرية منذ ان تعلم الإنسان أن يضيئ بها المكان ويحوّل الأكل من نيئ الى مطبوخ في قفزة حضارية عاشها الانسان والتقطها كلود ليفي شتراوس أحد أهم الأنثروبولوجيين في العالم كما انها لا ترى في النار القدرة التدميرية على حرق كل شيء ويذكر لنا التاريخ حرق روما على يد نيرون حتى يوسع من نفوذه ويمدد سلطاته كما ان النار يمكن أن تساهم في تغيير الواقع ونذكر جيدا ان النار التي التهمت جسد احد الشبان في تونس فاندلعت الربيع العربي في المنطقة العربية لتغيير واقع نحو اخر وتعيش المنطقة واحدة من أصعب مراحلها. المؤلفة اية ياسر بطريقة أقرب الى الشعرية ترى في النار ورودا، نلاحظ صياغة شعرية تجمع ضدين فنحن لا نعرف للنار وردا لكن مخيلة الكاتبة تبتكر هذه الصورة فتخلص النار من عنفها وشراستها الى ليونة وهشاشة واضحة ما الذي تريد أن تقوله الكاتبة من خلال هذا العنوان الفرعي؟ هل تقصد ان النار التي أشعلت روما وأحرقت جسد البوعزيزي يمكن أن تتحول الى رسالة محبة بين الناس وعنصر بناء لدى الشعوب؟ 1/ الأبعاد الدلالية في الرواية: أ - عندما تتحول الأمكنة إلى شخصيات: تسكن كوثر احدى الشخصيات الرئيسية في الرواية بيتا قديما لكن تصيبها أعراض مرض الزهايمر فتفقد الكثير من ذكرياتها غير أن البيت القديم الذي تسكنه يظل يحمل كل الذكريات ويحفظ كل الأحداث وتفاصيل الشخصيات التي مرت به، بهذا يتحول البيت الى حكايات عن ماضي العائلة ويحمل ثقل الحاضر. قوة المكان في هذه الرواية انه يحمل تاريخ أجيال عديدة مرت بالبيت منذ زواج والد ثريا رشوان بك بعنبر أم زينب ثم زواجه من توركان الفتاة التركية التي انجبت بقية الاخوة وما عاشته الضرتين واطفالهما من عمر فيه الكثير من الدسائس والحقد والألم و الفرح، يمر الزمن وتشيخ كوثر إلى أن سكن الزهايمر جسدها ففقدت جزءا كبيرا من ذكرياتها بمعنى انها فقدت علاقة بكل ما حولها وضيّعت هويتها الخاصة غير ان المكان يحل محلها و يظل صامدا في وجه الزمن فلم يصبه الوهن و لم يبلى و لم ينسى ماضيه ولا تنكر لكل الذين سكنوه، المكان هنا يحل محل بطلة الرواية ويظل يعج بكل ما مر به من شخصيات مؤثرة وأحداث مثيرة. في هذه الرواية المكان مكانان، مكان خاص هو البيوت التي انتقلت بينها الشخصيات وهي تحيل عادة الى العلاقات العائلية وقد شهد احداث شخصية كثيرة ومكان عام مفتوح يتحول الى فضاء عام يحيل عادة الى مصر والسودان والمجر وتركية وغيرها وشهد بدوره احداث دولية وعالمية مؤثرة في العصر في المكانين الخاص والعام لم تنشغل المؤلفة بوصف طوبوغرافي بل كانت تهتم أساسا بالأحداث الفاعلة التي تؤثر مباشرة في النسق السردي وفي طبيعة الشخصيات الروائية . ولذلك يؤكد غاستون باشلار على تأثير المكان في الانسان في أسلوب تفكيره وفي نمط حياته وهذا ما يجعل من المكان ملهم و مؤثر في سكانه ولذلك كانت المؤلفة اية ياسر في روايتها تربط بين الأمكنة والشخصيات من خلال احداث جغرافية او احداث تاريخية تؤثر في تلك الشخصيات الى حد انها تغير مصيرها. تذكر المؤلفة انه سنة 1933 ثمة حدث مهم في حياة عنبر عندما تم زواج أمها حنة من صالح احد اثرياء منطقة النوبة في تلك السنة تم تعلية سد النيل في اسوان غرقت العديد من القرى وهذا سيغير في شخصيات الرواية أيضا في حرب أكتوبر التي خاضتها مصر اختارت البطلة ان تمتهن التمريض حتى تساعد في نجدة الجنود المصابين وبهذا المعنى تتحول الأمكنة الى مؤثر مباشر في النسق السردي فضاءات إنسانية زاخرة بالقيم والدلالات لأنها تصبح حاملة لموروث ثقافي له تنوعه وعمقه الإنساني. ب - التاريخ خلفية الأحداث: يلاحظ القارئ ان "ذاكرة الأمكنة " هي رواية يمكن اعتبارها تاريخية إذا اعتمدنا تعريف جورج لوكاتش الذي يعتبر "كل رواية تاريخية تتناول الحاضر وتتمثل التاريخ السابق"، بمعنى ان كل نص أدبي يأتي بالماضي و يعيد تركيبه وفق بناء سردي تخيلي بهذا المعنى بصبح هذا النص الادبي له طبيعة تاريخية. نلاحظ ان الكاتبة اية ياسر قدمت أحداث متخيلة وفق ترابط سردي امتد على حقبة هامة و طويلة من تاريخ مصر انطلاقا من بداية القرن أي من الفترة التي كانت فيها وحدة بين مصر والسودان ثم وقع الفصل بين مصر والسودان وتتبع المؤلفة اهم المراحل التاريخية التي شهدتها مصر منذ الحكم الملكي الى حد الثورة التي أطاحت بالرئيس السابق حسني مبارك، تنطلق الاحداث منذ فيضانات النيل الي نتجت عن تعلية سد النيل الى المظاهرات التي نادت بسقوط نظام مبارك بين تلك الفيضانات وهذه المظاهرات احداث تاريخية عديدة أثرت كثيرا وبشكل مباشر في شخصيات الرواية وغيرت مسارها ومصيرها تنطلق احداث الرواية من خلال شخصية عنبر التي تزوجت أمها حنة من صالح أحد أبناء العائلات المتنفذة في السودان ومن خلال هذين الزوجين تتبع المؤلفة حياة ابنائهما و ترصد اختلاف الشخصيات الذي يسمح بتعدد الاحداث والتي ستمتد على أجيال ويكون ذلك مبررا لتتبع اهم الحقب التاريخية في مصر. ونلاحظ ان المؤلف كانت تكتب روايتها محمّلة بهاجس الموضوعية التاريخية لذلك راعت كثيرا الخط الكرونولوجي للأحداث واحترام المسار الزمني وهذا ما جعل المؤلفة تواجه رهانا حقيقيا هو كيف تضمن الأمانة التاريخية من جهة وكيف تتحكم في بناء تخييلي محكم بحيث توفق في احترام المعطيات الموضوعية وتنجح في تقديم شخصيات واحداث متخيلة وهذا ما جعلها تكتب وفق خط زمني مستقيم تبدو فيه الاحداث المتخيلة متناسقة بدقة مع الاحداث الموضوعية تقول مثلا "في التاسع عشر من سنة 55 انفصل السودان عن مصر" ص 80. كانت المؤلفة تختار أحيانا ان تبدأ الفصل بأحداث تاريخية للتمهيد ثم تتناول الأحداث السردية المتخيلة وأحينا تختار أن تنطلق من أحداث متخيّلة لتذكر لاحقا الاحداث التاريخية كما وقعت لذلك كانت تلجأ مرات عديدة إلى تقنية الفلاش باك من اجل ان تضمن خطية الأحداث وتحافظ على دقتها. كما نلاحظ ان الكاتبة بدت منشغلة كثيرا بالأحداث التاريخية الموضوعية فتذكر بدقة عدد القتلى في حريق القاهرة 52 وعدد البناءات والشقق والفنادق وغيرها التي تم حرقها وهذا ما جعل من التاريخي يبدو كأنه هو موضوع الرواية وكأن الاحداث المتخيلة هي مجرد خلفية للتاريخ الموضوعي وليس العكس. كما نلاحظ ان هذا التدقيق التاريخي لم يتعلق فقط بالأحداث التي شهدتها مصر بل امتد أيضا الى احداث أخرى شهدها العالم من ذلك الإشارة الى ثورة المجر ضد السوفيات واحداث 11 سبتمبر بالولايات المتحدة الاميركية حرب اليمن الغزو الأميركي للعراق الخ.. لكن عندما نفكر قليلا بالشخصيات الرئيسية والأحداث العنيفة التي عاشتها بل التجارب القاسية التي جعلتها في مهب الاقدار والتي تكشف عن قدرة كبيرة من التخيل لدى المؤلفة آية ياسر ونلاحظ ان التحولات التي تشهدها هذه الشخصيات قد راعت كثيرا خصوصية الأحداث التاريخية التي عاشتها من خلال شخصية عنبر مثلا التي تبدو تقليدية ومحافظة ومخلصة للضوابط الاجتماعية ومن جهة أخرى شخصية وليد الذي جرفته الحياة المادية وجعلته براغماتيا نفهم ان بناء الشخصيات في هذه الرواية كان يراعي انتماء كل شخصية الى واقعها الاجتماعي ولحظتها التاريخية ويبدو هذا بشكل واضح من خلال شخصية كوثر نفسها التي كانت شخصية نامية ومتطورة فقد عاشت بصفتها فتاة مدللة غير ان الأحداث القاسية التي عاشتها انتهت بها في بيت المسنات بذاكرة مشوشة جعلت الترابط الزمني يتلاشى وبالتالي تفقد انتمائها للمكان فضاعت منها هويتها. ج - مصر وتعدد الثقافات: من أهم ما يلفت الانتباه في هذه الرواية "ذاكرة الأمكنة" انفتاح الرواية على تعدد الثقافات التي يشهدها المجتمع المصري، تنطلق أحداث الرواية بتتبع جذور العائلة التي تعود في جهة منها إلى السودان وفي جهة أخرى الى تركية فالرجل المصري يتزوج بامرأة سودانية (قبل انفصال السودان عن مصر) كما يتزوج بامرأة تركية (بحكم وجود تاريخي لعائلات ارستقراطية كثيرة من أصول تركية) كما ان المؤلفة لا تهتم كثيرا بالاختلاف الطبقي وتجعل من الثري يتزوج فقيرة، من خلال هذا التنوع الجغرافي الذي سيدعم لاحقا من خلال الحبيبة القادمة من اوروبا او أميركا بمعنى أن هذا التنوع سيكون دينيا من خلال الزوج المسلم و الزوجة المسيحية والجار والصديق اليهودي .. كل هذا التنوع الجغرافي والديني يعكس العمق الثقافي لمصر اليوم المنفتحة والمتسامحة ويعبر تنوعها عن قيم أخلاقية تميل الى قبول الاختلاف والتسامح هذا ما تشير اليه المؤلفة مثلا عندما تذكر انه في احدى "الغارات الإسرائيلية على مصر اختبأوا بأحد المعابد اليهودية" ومن خلال قصص الحب التي تجمع بين الشاب المصري والفتاة الغربية. د - مكانة المرأة: من خلال بناء الشخصيات في هذه الرواية يمكن ان نلاحظ حضور قوي للمرأة في أدوارها المختلفة كزوجة وام وابنة وحبيبة وهذا ما يجعل من شخصية المرأة في المطلق مؤثرة وفاعلة في الرواية، وفي ذلك لم تكرس المؤلفة صورة نمطية عن المرأة ولعل الامتداد التاريخي للرواية قد ساعدها على خلق نماذج مختلفة لصورة المرأة من الزوجة التقليدية الى الزوجة المكافحة من اجل اطفالها الى الزوجة المتحررة من الضوابط الاجتماعية.. بدت شخصية المرأة في هذه الرواية نامية تتغير تدرجيا وفق نسق سردي متتابع ولعل صورة المرأة التي تفقد الذاكرة هي الصورة الأكثر ايلاما للقارئ، عاشت كوثر حياة هادئة جعلتها مدللة غير ان ما مر بها جعلها تعيش تقلبات شديدة غيرت نمط تفكيرها لكنها لم تفقد انسانيتها فقد اختارت في لحظة حرجة تعيشها مصر ان تتعلم التمريض من أجل أن تلتحق بمستشفيات تعالج جرحى الحروب التي خاضتها مصر من اجل امنها وسيادتها غير ان كوثر تنتهي نهاية لا تستحقها وتفضل المؤلفة ان ترج القارئ عندما تفقد البطلة ذاكرتها وتوضع في بيت للمسنات، تقول المؤلفة على لسان الساردة "مخيف ان تتلاشى ذكرياتك فجأة أن يتحول شريط ذكرياتك الى اشباح باهتة" ص 93 ، ان فقدان الذاكرة يعني فقدان العلاقة التي تشدها للماضي وتربطها بالحاضر وتساعدها على تمثل المستقبل وهذا يعني ان تمثلها للزمن سيتلاشى وبالتالي تفقد كل تمييز بين الواقع والخيال وبين الحقيقة والوهم وهذا ما يجعلها بلا انتماء فكأنها قطعة أثاث مهملة في البيت أي تتحول من شخصية فاعلة ومؤثرة الى شيء لم يعد له قيمة. 2 / الأساليب الفنية في الرواية: 1 - بناء الشخصيات: اختارت المؤلفة اية ياسر ان تكون محايدة تجاه شخصيات الرواية، بحيث لا يبدو انها منحازة الى شخصية ضد أخرى وانما قدمت شخصياتها وتركتها تواجه مصيرها من خلال الاحداث المختلفة التي تمر بها والتي تجعلها تواجه ازماتها بطريقتها بحيث لا نلحظ انها تتدخل لتغير مسار شخصية او تغير قدرها، كل الشخصيات بدت متناسقة في ظل الظروف التي نشأت فيها وفي مواجهة الصعاب التي تعترضها وهو ما يجعلنا امام شخصيات ليست متأزمة ولا تعيش صراعا سيكولوجيا وانما شخصيات نامية تتطور ببطء ولا تغير كثيرا في واقعها بل الواقع الذي تعيشه والقدر الذي تواجهه هو الذي يغير فيها. هذا ما جعل المؤلفة تفضل ان تكون شاهدة على الشخصيات التي تعيش واقع موضوعي ولذلك ربما اختارت المؤلفة السارد العليم الذي يمثل واسطة بين القارئ وشخصيات الرواية وهو سارد يدرك كل شيء ولا يبدو انه يتدخل في أي شيء يجعل شخصيات الرواية تعيش صخب الحياة ومعاناتها وشقائها وسعادتها ورخاءها وشظف الحياة وفي تفاصيل هذه الحياة المتشعبة تلتقط حياة هذه الشخصيات وتقدمها للقارئ كما عاشتها، هذا الحياد لا تعني ان المؤلفة غير مهتمة بشخصيات الرواية ولا بأحداثها بقدر ما يعني انها تحرر تلك الشخصيات من سلطتها كمؤلفة خصوصا وان تلك الشخصيات مقيدة بأحداث تاريخية حقيقية. 2 – اللغة السردية: اختارت المؤلفة ان تكتب بلغة سهلة وواضحة هي أقرب إلى اللغة الفصحى الوسطى، من جهة لم تسقط في الابتذال والتسطيح اللغوي وأيضا لم تسقط في التراكيب المعقدة او اللغة الشعرية كما ألاحظ انه من المرات القليلة التي اقرأ رواية مصرية يخلو سردها او حواراتها من اللهجة المصرية فكأن المؤلفة ارادت من روايتها ان تنقل المجتمع المصري بخلفيته التاريخية دون ان تفرط في المحلية. كما بدت المؤلفة اية ياسر وفية الى خصوصية السرد الروائي المصري الذي لا يهتم الروائيون فيه عادة الا بعنصر السرد بمعنى ان الحكائية هي الأهم وهو ما جعلهم ينشغلون ببناء الشخصيات لأنها هي التي ستتكفل بمهمة السرد وعادة ما يكون هذا على حساب تلك الشخصيات نفسها فنجدها عادة شخصيات نامية تتطور بهدوء وفق تتابع الاحداث دون غوص في التركيبة السيكولوجية للشخصيات ودون اهتمام بصراع الشخصيات او ازمتها مع ذواتها لهذا يبدو تأثر المؤلفة واضحا بمدرسة نجيب محفوظ السردية وهي مدرسة عظيمة لها تأثيرها الكبير في الرواية العربية عموما غير انها تنتج روائيين متشابهين. 3 – سؤال الكتابة: إذا كان حنا مينا ينصح الروائي بأن أول ما يجب أن يكتبه هو أن ينطلق من تجربته الشخصية في الحياة، أي أن يكتب ذاته أولا فلماذا اختارت اية ياسر في أولى أعمالها الأدبية التي تهتم فيها بالحفر في الاجتماعي أن تكتب عن تاريخ مصر؟ هل هي رغبة في الاحتماء بسلطة التاريخ من أخطاء الذات التي لا يغفرها القارئ العربي الكلاسيكي؟
مشاركة :