القصيبي.. طغرائي الوزارة والشعر وأكثر

  • 7/8/2021
  • 00:00
  • 51
  • 0
  • 0
news-picture

إذا كان الحسين بن علي بن محمد بن عبد الصمد الدؤلي الكناني, وقيل الأصبهاني, المعروف بالطغرائي, وزيرًا وشاعرًا وكيميائيًا, فإنّ الدكتور غازي بن عبد الرحمن القصيبي, المتوفى رحمه الله في 15 أغسطس 2010م, كان وزيرًا وشاعرًا وروائيًّا وسفيرًا وأكثر, وهو من قبل ومن بعد معلّمًا أكاديميًّا. وإذا كان الطغرائي الوزير فخر الكتّاب, قد صنّف في الكيمياء وحدها خمسة كتب, فقد صنف القصيبي سبعين كتابًا, ما بين شعر ورواية وسيرة وقصة ومسرح وفكر وإدارة. وإذا كان الطغرائي الوزير هو الشاعر الذي سار بشعره الركبان, سيّما رائعته لاميّة العجم, التي هي من عيون الشعر العربي, وقد بلغ عدد شرّاحها الثلاثين شارحًا , وهي التي يقول في مطلعها: أصالة الرأي صانتني عن الخطلِ وحِلية الفضل زانتني لدى العطَلِ فإنّ الوزير القصيبي هو سندباد الشعر السعودي, أصدر العديد من الدواوين الشعرية, وهو الشاعر الذي احتار النقاد في تصنفيه, فهو الكلاسيكي الذي ليس كسائر الكلاسيكيين, وهو الرومانسي المختلف عن الرومانسيين, وهو الواقعي الذي لا يشبه الواقعيين, والحداثي الذي لا علاقة له بالحداثة, وهو الوطنيّ الغيور حدّ الغليان على وطنه, تشهد له مقالاته ( في عين العاصفة) إبّان حرب الخليج, و “ أجل نحن الحجاز ونحن نجد”. وما ذلك إلا لأنّ القصيبي وحده كان مثقفًا من نسيج خاص, المثقف المنتقِد لما لا يعجبه, وإن كلفه ذلك أن يتصادم مع السلطة التي هو من رجالها, فتمنع بعض دواوينه وكتبه في المملكة, ولا يعير ذلك أدنى اهتمام, رغم أنّ وجوده في السلطة لم يكن وجودًا عاديًّا, فمثلًا, في الوقت الذي سحبت فيه قصيدته ( رسالة من المتنبي إلى سيف الدولة), وربما أقيل على إثرها من وزارة الصحة, هو يقول: وقتها لم يكن يمر عليّ أكثر من أربعة أيام, إلا وكان يجمعني بالملك فهد إمّا غداء أو عشاء, القصد كما نقول بالعامية “ كان كل شيء في طريقه”. كان الملك فهد يعني له الأب كما يقول, والابن يظلّ ابن أبيه مهما أخذ الأب من ابنه من عمل أو عاقبه. هو يقول: في الوقت الذي أأمن أن من حقي أن أقول رأيي, أأمن أيضًا أن من حق صاحب القرار أن يقبل رأيي ومن حقه أن يرفضه. وفي ضوء هذا الوعي النبل الذي كانت تنطلق منه قناعات القصيبي, لم يخطر له مطلقًا أن يستغلّ وجوده داخل السلطة, على الأقل في رفع الحظر عمّا منع من كتبه, ولو كان غيره لفعل المستحيل, لكن من غير القصيبي سيكون داخل السلطة, ويفكّر أن يؤلف كتابًا هو يعرف أنّ السلطة ستحظره؟ وإذا كان الطغرائي هو الوزير الذي لم يكن يضاهيه أحد في الدولة السلجوقيّة, فإنّ القصيبي كان العربي الوحيد الذي أجمعت الدول العربية على ترشيحه ممثلًا لها, عندما تقرر أن يكون المرشّح لرئاسة اليونسكو, ولأول مرة, من قارة آسيا, وعندما عرفت مصر والأردن واليمن أنّ السعوديّة قد رشّحت القصيبي, فضّلت سحب مرشحيها والالتفاف حول القصيبي ودعمه, كمرشح وحيد للعرب. وإذا كان الوزير الطغرائي قد أضناه طموحه الكيميائي في تحويل النحاس والرصاص إلى ذهب وفضة, ولم يرَ شيئًا من ذلك يتحقّق, فإنّ الوزير القصيبي قد رأى الكثير من طموحه يتحقق, من ذلك “ سابك”, الشركة التي كانت من بنات أفكاره هو, وهو من أطلق عليها اسم سابك, ورأى مدينتي الجبيل وينبع الصناعيتين, اللتين رأتا النور إبّان وزارته للصناعة والكهرباء. وإذا كان الوشاة قد سعوا بالطغرائي الوزير, فكم وشاةً قد سعوا بالقصيبي, من قبل الوزارة وبعدها, بل منذ عهد الملك فيصل طيب الله ثراه, حين سعوا به وبديوانه الثالث ( معركة بلا راية), “ إذ ساروا في وفود وعلى مدى أسابيع عدة نحو الملك فيصل, لمطالبته بمنع الديوان من التداول وتأديب الشاعر, فأحال الملك فيصل الديوان لمستشاريه ليطلعوا عليه ويأتوه بالنتيجة، فكان رأي المستشارين أنه ديوان شعر عادي, لا يختلف عن أي ديوان شعر عربي آخر. إلا أن الضجة لم تتوقف حول الديوان, واستمرت الوفود في القدوم على الملك فيصل، فما كان منه إلا أن شكل لجنة ضمت وزير العدل ووزير المعارف ووزير الحج والأوقاف, لدراسة الديوان أو محاكمته بالأصح, وانتهت اللجنة إلى أنه ليس في الديوان ما يمسّ الدين أو الخلق”. وكلما تذكّر القصيبي وشاياتهم تلك الأيام, كان يذكر باعتزازٍ جمّ, ذلك الموقف النبيل للملك عبد الله طيب الله ثراه, قيل إنه كان يطلب من الملك فيصل عدم الالتفات لأقوال الوشاة في القصيبي. وإذا كان الطغرائي الوزير قد اتهم بالإلحاد, فإن الوزير والسفير القصيبي قد اتهم أيضًا بالعلمانية التي تعني الإلحاد, وفقًا لتعريفها الذي أورده القصيبي في كتابه ( حتى لا تكون فتنة), ذلك الكتاب الذي ألّفه ليرد فيه على سلمان العودة, وناصر العمر الذي اتهمه بالعلمانية. يقول التعريف:” العلمانية هي دعوة إلى إقامة الحياة علـى غيـر الـدين “ وتضـيف الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة, مصدر التعريف, أنّ “ معتقدات العلمانية في العالم الاسلامي هي الطعن في حقيقة الإسلام والقرآن والنبوة”, وبناء عليه فالعلماني ملحد أي كافر, ومرتد حكمه الإعدام. أيّ أنّ جماعة الإخوان كانت تسعى للتخلص من القصيبي منذ وقتٍ مبكر, لماذا؟ سنعرف لاحقًا. وإذا كان السلطان السلجوقي قد أُعدم الطغرائي بتهمة الإلحاد, فالتاريخ يخبرنا أنّ الدافع الحقيقي كان سياسيًّا مغلّفًا بغلاف ديني. وسواء الملك فيصل أو الملك فهد لاحقًا, لم يستمع أيّ منهما للوشاة المتسلحين بالدين, رغم سعيهم الحثيث في تكفير القصيبي. “ بيني وبينك ألف واشٍ ينعب”, لم يقلها القصيبي من فراغ. صدق كانوا ألف واشٍ وواشٍ. وإذا كان الطغرائي رجل دولة, بالمفهوم المتداول اليوم, فإنّ القصيبي كان بالفعل رجل دولة, إذ كان هو الوزير المقترح على الدوام, لكل وزارة تكثر إشكالاتها, نظرًا لانضباطه ونزاهته واتساع أفقه المعرفي, إضافة لمواهب شتى كان يتمتع بها القصيبي, الإداري الناجح والمناهض للبيروقراطية على الدوام. يقول: كانت الكهرباء في الرياض تشهد انقطاعات متكررة, عندما عينتُ وزيرًا للكهرباء, وفي واحدة من تلك الانقطاعات كنت قد أسرعت إلى المحطة, وصادف أن كنت متواجدًا مع الموظفين المستقبلين لاتصالات المواطنين, وكان المتصلون حانقين, رفعتُ سماعة الهاتف لأرد على أحدهم, ففاجأني قائلًا: “ قل لوزيركم يتركه من الشعر وينتبه لعمله, ينتبه للكهرباء”. فأجبته شكرًا رسالتك وصلت. قال: ماذا تقصد؟ قلت: سمعك الوزير. قال: من أنت؟ قلت: الوزير. قال: احلف. قلت: والله العظيم أنا الوزير. صمت المتصل قليلًا ثم أغلق الهاتف. يحكى أنّ مندوب شركة كوريّة, كان يحمل حقيبة عندما زار وزير الصناعة والكهرباء غازي القصيبي في مكتبه بالوزارة, بعد مغادرة المندوب الكوري, انتبه القصيبي للحقيبة التي تركها الضيف, فأرسل في إثره من يعيده, ثم قال له: نسيت حقيبتك. قال المندوب: إنها لك. فطلب منه أن يفتحها, وإذا بها ممتلئة برزم البنكنوت. طلب الوزير من المندوب أن يأخذ حقيبته وينصرف, وهو يبلغه أنّ الوزارة لن تتعامل مع شركته مطلقًا بعد اليوم. من يقـــــرأ روايــــــة القصيبـــــي ( العصفورية), سيعرف عن أيّ رجل موسوعيّ أتحدث, موسوعي في شتى المعارف والعلوم, وباستبطانٍ عميق للمعلومة, وحفظٍ كاملٍ لديوان المتنبي على صعيد الشعر, وإن تعمّد البرفسور, بطل الرواية بشار الغول, الظهور بمظهر خفيف الدم صاحب الفكاهة الساخرة, لكنه كان جادّا غاية الجد في الحوار المركز الذي دار بينه وبين الشيخ ضياء المهتدي, رئيس الحزب الإسلامي الساعي للاستيلاء على السلطة, متخذًا من كتاب سيّد قطب ( معالم في الطريق) برنامجًا له, ليدور الحوار الجاد حول هذا الكتاب, فنرى كيف فنّد البطل البرفسور برنامج سيد قطب وحزبه, فيما ظلّ رئيس الحزب الإسلامي ضياء المهتدي يجدف عبثًا, وهو مستميت في الدفاع عن كتاب معالم في الطريق. لا ننس أنّ رواية العصفوريّة صدرت في 2006م, ما يعني أنّ القصيبي, ومنذ زمن بعيد قبلها, وهو يقرع ناقوس الخطر من هذه الجماعة, وهم يعرفون ذلك, حتى من قبل أن يشرع في العمل من خلال فنه على توعية الناس بحقيقتهم, وبمغالطاتهم الدينيّة التي يسترون بها سعيهم المحموم نحو السلطة. وبسبب قرب القصيبي من صانع القرار, وخشيتهم من تأثيره, ضاعفوا من سعيهم به للنيل منه أو على الأقل تشويهه, ولعظم غفلة المجتمع وقتها, وتعاظم نفوذ المتأسلمين, بدا القصيبي كمن كان يسير وحيدًا عكس التيار. أظن أننا قد عرفنا الآن سرّ إصرارهم على تكفيره, وكثرة وشاياتهم به, وسعيهم الحثيث للتخلص منه. وعلى الجانب الآخر, كم تمنيت لو أنّ أيام القصيبي امتدّت به, حتى يسمع الكلمة التي صدع بها الأمير محمد بن سلمان في أذان من سرقوا ثلاثين عامًا من أعمارنا, بل كم تمنيت لو أنّ طموح الأمير محمد بن سلمان يصادف من بين وزرائه وزيرًا بوزن القصيبي.

مشاركة :