لماذا يتعيّن على الأردن أن يكون أكثر حذراً الحرب الإسرائيلية على غزّة وفرت فرصة مثالية بالنسبة إلى طهران لاختبار إمكانية اختراق الجبهة الأردنية الداخلية حيث كشف الغضب الشعبي عن فرص مبشِّرة بالنسبة إلى إيران. ضروري تعقب التحركات الإيرانية تُتابع مختلف دول منطقة الشرق الأوسط باهتمام بالغ تطورات الحوار الإيراني – الغربي في فيينا؛ الحوار الذي لم يتمكّن أيّ طرف إقليمي من حيازة تذكرة الجلوس على طاولته، وذلك على الرغم من أن الأطراف الإقليمية هي الأكثر تأثُّراً بمخرجاته. وكانت العلاقات العربية مع إيران تدهورت بعد حادث اقتحام السفارة السعودية على يد مُتشدِّدين مُقرَّبين من دوائر الرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي. وليس من المرجح أن يشهد هذا الوضع تحسُّناً على المدى القريب؛ فمواقف رئيسي حيال التقارب مع العرب لا تُبشِّر بأي تحسُّن محتمل. وعلى الرغم من تصريح رئيسي بأن إيران جاهزة للعودة إلى العلاقات مع المملكة العربية السعودية، لكنّه ربط ذلك بتغيير سياسات المملكة حيال مختلف الملفات الإقليمية، ومن ضمنها الملف اليمني، مُضافاً إلى ذلك، تأكيده على مواصلة دعم محور المقاومة في المنطقة العربية، وإصراره على أن البرنامج الصاروخي الإيراني غير قابل للتفاوض، وكذلك النفوذ الإقليمي الإيراني؛ ما يعني أن الرئيس الجديد لا يزال يتموضع داخل ذات الخطاب الذي حكم عقلية المحافظين والمُتشدّدين حول الدبلوماسية الإقليميّة المثلى لإيران. وبشكلٍ عام، لا تتّسم سياسات التيار المحافظ الإيراني حيال الكتلة العربية بمقاربة ودّية، أو ندّيّة، كما لا تُبشر هيمنة الحرس الثوري على حكومة الرئيس الجديد إبراهيم رئيسي، خصوصاً في ملف السياسات الإقليمية، بإمكانية الانفتاح على الجانب العربي. صحيحٌ أن الخطاب العدائي الإيراني يستهدف بشكل أساس المملكة العربية السعودية، ويُركز عليها أولاً، باعتبارها النقيض أو الضدّ الإقليمي المعادي، وبالطبع يمكن أن يعتبر دليلاً على أن إيران لا تنوي إتباع سياسة مُوحَّدة حيال جميع الأطراف العربية، إلّا أن الإسراف في هذا التفسير لا يبدو منطقياً رغم ضرورة الانتباه إليه؛ فعدم التطرق إلى الكتلة العربية بوصفها كتلة واحدة، لا يعني إمكانية قبول التيار المحافظ الإيراني التعامل مع أيّ من الأطراف العربية كأنداد، أو شركاء فعلييّن أو مُحتملين في المنطقة، ولعلّ المقاربة الأكثر تعبيراً عن تطلُّعات التيار المحافظ الإيراني تجاه المنطقة العربية ككلّ، هي مقاربة تضع العرب عموماً بين خانَتَيْ الاستتباع، أو الاستعداء. ومن المفترض أن تؤدي هيمنة المحافظين على حقيبة وزارة الخارجية الإيرانية ومناصبها العليا، إلى انخفاض التعارض بين الأجهزة الدبلوماسية والأجهزة الثورية. ويُمكن توقُّع مشاهدة انسجام أكبر بين التوجُّهَيْن، دون أن يعني ذلك القضاء على هذا التعارُض الذي يبدو في جزء منه ذاتياً. واستناداً إلى ذلك، يمكن توقع تنامي مزيج من التوجه العقائدي، والأيديولوجي على الصعيد الإقليمي، والتوجه نحو الشرق ضمن السلوك الدبلوماسي الإيراني خلال حكومة الرئيس إبراهيم رئيسي، خاصةً إذا أخذنا بالحسبان هيمنة مثل هذه الرؤية على المؤسسات السيادية الأخرى المؤثرة على صنع القرار الدبلوماسي، وصناعة السياسة الخارجية في النظام الإيراني. لكنّ التغييرات الأكثر أهميةً وعمقاً في استراتيجية إيران الإقليمية صنعتها عوامل أكثر أهمية من مُجمل هذا التغيير الحاصل في خارطة الفاعلين السياسيين في طهران؛ فقد أدى الاقتراب الإسرائيلي من خاصرة إيران الأكثر أهمية من الناحية الجيوستراتيجية في الخليج العربي، عبر اتفاقات السلام الإبراهيمية، والتدافع الإيراني – الإسرائيلي الخشن في سوريا، والتدافع الإيراني – الأميركي في العراق وشرق سوريا، وما يُعرف بـ”حروب الظل” المشتعلة بين هذا الأطراف الثلاثة، وأطراف إقليمية ودولية أخرى غير ظاهرة في واجهة الأحداث إلى تغييرات جذرية في توجهات وأولويات إيران الإقليمية على مختلف المستويات الأمنية والعسكرية والسياسية. وأدّى انحسار “داعش”، وباقي التنظيمات الإرهابية في العراق وسوريا، وتوقُّف مُعظم العمليات العسكرية على امتداد خرائط الحرب على الإرهاب، وخطوط المواجهة مع الخصوم المحليين والإقليميين للمحور الإيراني في العراق وسوريا، إلى تعطُّل أعداد كبيرة من المقاتلين في صفوف الميليشيات الإيرانية عن العمل. كما دفع غياب قاسم سليماني بما كان يُمثّله من تأثير ونفوذ لدى مجمل التنظيمات الشيعيّة في المنطقة، إلى تفكير قيادات الحرس الثوري بإعادة هيكلة هذه الميليشيات، خاصة في العراق؛ حيث تُشكِّل الميليشيات المنضوية تحت لواء الحشد الشعبي قوّةً عدديّةً هائلةً، لم يَعُد مُمكِناً ضبطُها، والسيطرة عليها بنفس درجة الكفاءة السابقة، خاصّة في ظل تراجُع التمويل الإيراني للوكلاء الإقليميين بشكل عام، نتيجة حملة الضغوط القصوى الأميركية التي قادها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، ونتيجة الضغوط والاحتجاجات الشعبية واسعة النطاق التي تعرّضت لها الحكومة العراقية لجهة وقف نزف عوائد النفط لصالح تمويل المشروع الإقليمي الإيراني. كل ذلك دفع قيادات الحرس العليا إلى التركيز في الهيكلة الجديدة لميليشياته الإقليمية على المجاميع العددية الصغيرة، ذات التدريب العالي، والتي تتمتع بالقدرة على تنفيذ عمليات نوعية تنسجم مع متطلبات المرحلة الجديدة. وهو ما سيخلق مخاطر من نوع جديد لمختلف اللاعبين الإقليميين والدوليين في المنطقة والعالم. ويتطلب بالتالي استجابات مختلفة عمّا كان سائداً خلال السنوات القليلة الماضية. ويحتل الأردن بحدوده الجغرافية الممتدة على طول خطوط التماس الإيرانية – الأميركية – الإسرائيلية موقعاً بالغ الأهمية في استراتيجية إيران الإقليمية الجديدة، خاصة بعد توقيع الاتفاقية الدفاعية الأردنية – الأميركية التي استقرت بموجبها القواعد الأميركية في الأردن، وبالفعل وصلت إلى الأراضي الأردنية – بحسب وكالات أنباء محلية ودولية – أعداد غفيرة من القوات الأميركية المنسحبة من أفغانستان وقطر والعراق والسعودية ومواقع إقليمية أخرى. وفي ضوء الاستراتيجية التي تبنّاها الحرس الثوري الإيراني بعد مقتل الجنرال قاسم سليماني، والهادفة إلى الضغط على القوات الأميركية في المنطقة، والتي رأينا بعض ملامحها في العراق وسوريا، يمكن بكثير من الثقة توقُّع أن يُبادر الحرس الثوري الإيراني إلى البحث عن طرق لتهديد تواجد القوات الأميركية في الأردن، والاستعداد لإمكانية استهدافها في الحاضر والمستقبل. وتُركِّز استراتيجية إيران الإقليمية الجديدة بشكل أكبر على القضية الفلسطينية، بفعل تراجُع وتيرة الصراع الطائفي – السياسي مع السلفيّة السُّنية (بعد تخلي المملكة العربية السعودية عمليّاً عن السلفيّة كمصدر للشرعيّة، وتبنيها إصلاحات عِلْمانيّة)، وانحسار التنظيمات الإرهابية الجهاديّة الكبرى مثل “داعش” و”النصرة”. وقد بدأ التناقض الإيراني – الإسرائيلي يعود إلى السّطح بشكلٍ مُتزايدٍ كأولوية قُصوى بالنسبة إلى الأوساط المُتشدّدة في النظام الإيراني، في حين كان التناقُض مع السلفيّة يحظى بالأولوية طوال العشريّة التي تلت ما يسمى “الربيع العربي”. ويمكن تلمُّس أسباب عودة التناقض مع الصهيونيّة كأولويّة قصوى في الخطاب السياسي الإيراني خلال السنتين الأخيرتين في احتدام التنافس الجيوسياسي الإقليمي بين الطرفين، والفيتو الإسرائيلي المفروض على السلاح النووي الإيراني، وحروب السفن والناقلات المشتعلة بين الطرفين في الممرّات المائية الإقليميّة نتيجة الاقتراب الإسرائيلي من خاصرة إيران في الخليج العربي وبحر عمان. كُلّ ذلك استدعى استجابة إيرانيّة تُحاول الحفاظ على توازُن الرُّعب، وفي هذا الإطار جاءت التوجيهات التي تلقتها مختلف الفصائل الفلسطينية العاملة في سوريا، وكذلك فصائل الحشد الشعبي العراقي لتوسيع أنشطتهم إلى السّاحة الأردنية، ربما لتحقيق اقتراب جديد من الحدود الإسرائيلية، وخلق مصادر تهديد جديدة لإسرائيل تُعيد موازنة مُعادلة الرعب بين الطرفين، وربما لوجود اعتقاد لدى قادة الحرس الثوري بوجود هشاشة في الوضع الداخلي الأردني تسمح بمثل هذا الاقتراب. وقد وفّرت الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزّة فرصة مثالية بالنسبة إلى طهران لاختبار إمكانية اختراق الجبهة الأردنية الداخلية؛ حيث كشفت موجة الغضب الشعبي التي سادت في الأردن تجاه الهجمات الإسرائيلية عن فرص وإمكانات كامنة مبشِّرة بالنسبة إلى إيران والتنظيمات الفلسطينية والميليشيات الشيعية المتعاونة مع إيران في المنطقة. وبالفعل بادرت ميليشيات عراقية على الفور إلى اختبار الفرصة الجديدة عبر إرسال الآلاف من عناصرها إلى الحدود الأردنية – العراقية بدعوى الرغبة في عبور الحدود الأردنية، والتظاهر السّلمي ضدّ غطرسة الاحتلال الإسرائيلي في غزّة. وبالطبع تعاملت قوات حرس الحدود الأردنية مع الموقف بما تتطلبه الحالة الأمنية من احتراز واحترافية عالية معهودة عن القوات المسلحة الأردنية. لكنّ هذه ليست نهاية القصة، بل ربما تكون الفصل الأول من سلسلة طويلة من المحاولات الإيرانية لاختراق الجبهة الداخلية الأردنية. د. محمد الزغول مدير وحدة الدراسات الإيرانية مركز الإمارات للسياسات
مشاركة :