التقـاطعات بيــن نيتـشـه وحمـزة شحـاتـة

  • 7/17/2021
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

برعاية هيئة الأدب والنشر والترجمة نظمت جمعية الفلسفة ضمن برنامج قراءات فلسفية في الفكر السعودي محاضرة بعنوان (جينالوجيا النقض: نيتشة وحمزة شحاته)، قدمها بمركز سيدانه الثقافي بجدة الدكتور عادل خميس الزهراني -أستاذ النقد الحديث-، وأدار الحوار الدكتور مساعد الجهني الذي رحب بالضيف والحضور، وشكر مركز سيدانه على استضافته المحاضرة، كما تحدث باختصار عن البعد الفكري في أعمال شحاتة، وعن النقد الاجتماعي الذي وسم أعماله النثرية. بعد ذلك بدأ الدكتور عادل خميس محاضرته بالتنويه أن المحاضرة لن تأخذ الطابع المدرسي، ولا يجدر بها أن تفعل في هذا المقام، ولن تصنّف فكر شحاتة لأقسام ومباحث، وتناقشها وفقاً لذلك، وأحال الزهراني على محاضرة عبدالرحمن المرشود التي كفته مشقة تتبع كثير من القضايا، خصوصاً فيما يخص نظرية شحاتة في الأخلاق، كما أحال على الفصل الرابع من كتابه (جدلية الوجود والعدم: مقاربة أدبية فلسفية لأعمال حمزة شحاتة)، الذي تناول فلسفة شحاتة بشيء من التفصيل. وأضاف الزهراني: «يفتتح نيتشه كتابه الشهير (هذا هو الإنسان) بعبارة لا تخلو من استفزاز.. عبارة تنعقد لها الحواجب أيضاً، وربما تقشعر الأبدان.. يقول: «تحسّباً لكوني سأضع البشرية عما قريب أمام إلزامات جسيمة لم تعرف لها مثيلاً في السابق، فإنه من الضروري أن أقول لكم: من أنا... إني أعرف تماماً مصيري، سوف يرتبط اسمي يوماً ما بذكرى شيء مرعب، ذكرى شيء مهول. سوف يرتبط بتلك الزلزلة التي لم تشهد لها الأرض مثيلاً من قبل... وكل ما هتفوا له وقدموه. أنا لست إنساناً.. أنا ديناميت». هذا ما قاله نيشته مجيباً عن سؤاله: من أنا؟» وأعتقد أن حمزة شحاتة، منذ منتصف القرن العشرين، كان يقول لنا: من هو. يقول: (من أنا)، لكن بطريقته، طريقته التي احتجنا زمناً لنستوعبها... ونأخذها بما تستحق من جد وجهد. وأكمل خميس: «قراءة شحاتة وفقاً لنظرة أخرى أكثر تعمقاً وفهماً تظهر لنا أنه كان يتحرك ضمن سياق فكري أوسع، سياق يربطه بفكر متجاوز للمكان وللمرحلة. أعني هنا سياق النقض الذي يشكّل نيتشه سيدَه الأول، وعمودَ خيمته. (النقض الذي قام عليه المشروع الفكري الحديث، والفلسفة الحديثة، في منعطفها اللغوي. يقال إننا نعيش اليوم في قرن الرأي، بعد أن كان القرن الماضي، قرنَ النقد). والنقض هنا -كما هو معروف- قرين النقد، وإحدى أهم أدواته التي قادت فيلسوف التقويض جاك دريدا للتحليق نحو المستقبل، تحيل فكرة النقض على هاجس فلسفي مهم يكاد يكون المحرّك الأول خلف سؤال الفكر الحديث نقداً كان أو فلسفة، يتلخص هذا الهاجس في أن كل قراءة لا بد أن تحمل -ولو ضمنياً- تكسيراً في بناء سابق، هدماً، وتغييراً. لكن النقض -وفقاً لمنهج الفكر الحديث- ليس سهلاً، بل هو رحلة شاقة وعرة، شديدة الخطورة، ولعل هذا ما جعل جورج ديب يصف نيتشه بأنه «أجرأ ذهنية وجدت على الأرض». جيل دولوز، الذي قدّم عدة دراسات مركزية أسهمت في تشكيل صورة تلقي نيتشه، يقول: «بديهي أن الفلسفة الحديثة، في جزء كبير منها، عاشت ولا تزال تعيش على نيتشه، لكن ربما ليس بالطريقة التي يتمناها» نيتشه نفسه. وذلك عبر تشكيله لجوهر فلسفي جديد تكون «القيمة والمعنى» من مكوناته النقدية. يقول دولوز: «إن فلسفة القيم، كما يقيمها نيتشه ويتصورها، هي التجسيد الفعلي للنقد، والكيفية الوحيدة لتحقيق النقد الكلي... ذلك أن مفهوم القيمة يقتضي انقلاباً نقدياً». ويورد خميس تعريف رياض طاهير الذي يؤكد أن «جينيالوجيا في الثقافة الغربية تدل على شجرة النسب سواء على المستوى الفردي أو الأسري وحتى الاجتماعي، كما أن الجينيالوجيا تعد من بين العلوم التي تهتم بالدراسة والبحث عن أصول ونسب العائلات»، «ولهذا -وفقاً لتعبير طاهير- أصبح معنى الجينيالوجيا في النسق النيتشوي، يدل على تتبع المسار التاريخي لظهور المصطلح، وليس الغاية من ذلك السرد التاريخي الذي ليس له معنى، وإنما تتبع الفكرة من حيث نشأتها وتطورها من جهة، ونقدها والحط من قيمتها، وبالتالي إزاحة تلك القداسة التي كانت تتميز بها من قبل وضرورة تجاوزها من جهة أخرى، بمعنى أن الغاية من المنهج الجينيالوجي النيتشوي؛ هو إثارة الشك والريبة في المسائل التي كانت تعتبر حقيقية ويقينية ولا تشوبها شائبة». ويتحرز الزهراني حينما يذكّر الحضور بنقطة يصفها بالجوهرية في فهم الجينالوجيا النيتشوية، مشيراً إلى بحث عصام عبدالله (الجذور النيتشوية لـ «ما بعد الحداثة»)، الذي يشدد على «أن المقصود من الجينالوجيا ليس إثبات الأصل التاريخي، أو الوقوف عند لحظة أولى تحددت فيها خصائص الميتافيزيقيا وتعينت ماهيتها، كذلك ليس المقصود تمجيد البدايات أو الأصول، إذ إن ذلك سيغرقنا في دوامة الميتافيزيقيا ذاتها التي تزعم بأن الأشياء كانت كاملة في بداياتها». يقتبس عصام عبدالله من كتاب ميشيل فوكو عن نيتشه قوله: «إذا أولى الجينالوجي عنايته للإصغاء إلى التاريخ بدلاً من الثقة في الميتافيزيقيا، سيدرك أن وراء الأشياء هناك «شيء آخر»، لكنه ليس السر الجوهري الخالد للأشياء، بل سر كونها من دون سر جوهري، وكونها من دون ماهية، أو كون ماهيتها قد نشأت شيئاً فشيئاً وانطلاقاً من أشكال غريبة عنها.. وهذا ما عناه نيتشه حين قال «بمعرفة الأصل تزداد تفاهة الأصل». شحاتة وفلسفة النقض في الجزء الثاني من المحاضرة أشار عادل خميس التذكير إلى أن حمزة شحاتة قارئ نهم ومميز، قارئ ناقد، قارئ للفلسفة، ومنتج لها. وهذا ليس سراً، فقد قرأ نيتشه وغير نيتشه، وهذا ظاهر في أعماله لمن قرأها، كما يتفق معاصروه على ذلك. يؤكد خميس إدراكه أن (نيتشه وشحاتة) ينطلقان من مرجعيات مختلفة، لكنه يعتقد أن شحاتة تأثر بنيتشه، تأثر بفلسفته، بأسلوبه، بمنهجه، وبشخصيته كذلك، وهو ما حاول إثباته سريعاً في الجزء الآخر من المحاضرة. شهدت المحاضرة بعد ذلك مشاركة في الحوار بدأها الناقد الدكتور سعيد السريحي الذي نبّه على أن نيتشه ينطلق من حاضنة فكرية مختلفة عن حاضنة شحاتة، وهو ما يحتّم علينا الحذر من بناء المقارنات اعتماداً على المتشابه من القول والفكر بين الرجلين، وهو ما وافقه فيه خميس، مؤكداً أنه لم يسع إلى المقارنة بقدر ما حاول وضع فكر شحاتة ضمن سياق فلسفي معيّن، معترفاً أن سرد التشابهات لا يخلو من تسطيح للقضية، وأن مسألة التقاطعات هامشية مقارنة بدراسة نتاج شحاتة دراسة متعمقة وجادة، وهذا ما وافقت عليه الناقدة الدكتورة رانية العرضاوي التي اتفقت مع خميس في عقد المقارنة العلمية التي قد تضيء جوانب مهمة وتجيب عن أسئلة غامضة في شخصة وفكر شحاتة، وتساءلت العرضاوي عن مدى وضوح انعكاس الجينالوجيا النيتشوية في أعمال شحاتة، ما حدا خميس بالتذكير بأن الجينالوجيا -كما تظهر عند نيتشه- تشكّل أكثر من شيء واحد، فهي فلسفة ومنهجية وأداة تحليل ونقد وإبداع في الوقت ذاته، كما أشار الباحث والناقد منصور الكبكبي على اتفاقه مع خميس في كثير مما ورد، مشدداً على انطلاق شحاتة من نظرة مثالية، تخالف البعد النفعي وربما العدمي الذي ميّز فكر نيتشه. د. الزهراني ومقدم الأمسية د. مساعد الجهني

مشاركة :