ما من أحدٍ لديه أثارةٌ من فقه الاشتغال على استقراء نصوص الشريعة إلا سينتهي به مطافُ استقرائه على نحو ما انتهى بابن عاشور الذي قال: لما تحقق فيما مضى أن المساواة من مقاصد الشريعة لزم أن يتفرع على ذلك أن استواء أفراد الأمة في تصرفهم في أنفسهم مقصد أصلي من مقاصد الشريعة وذلك هو المراد بالحرية. وفي موطنٍ آخر راح يُقرر بطريقة استفصال ما أجمله قائلاً: فمن استقراء هاته التصرفات ونحوها حصل لنا العلم بأنّ الشريعة قاصدة بثّ الحرية بالمعنى الأول. وهو ذاته ما كان قد وكّده علال الفاسي بقوله: فالحرية الذاتية هي الأساس الأول للحرية التي نادى بها الإسلام وأقرها. بمثل هذه التوطئة يمكننا القول: إنّ الحريّة فريضةٌ مُتعيِّنةٌ من حيث النظر إليها بالوصفِ الذي يجعل منها تكليفاً لا يُمكن لأيّ مسلمٍ أن ينهض بعمارة آخرته/ ودُنياه إلا بالتوافر عليها بدءاً بأعلى شُعب الإيمان حيث التحقيق لتوحيده وانتهاءً بآخر شُعب الإيمان وذلك بما يُميطه عن الطريقِ من أذىً. ولعلّ فيلسوف الأخلاق طه عبدالرحمن قاربَ قبلاً كلّ هذه المعاني بعباراته المكثّفة لفظاً/ ومعنىً حيث كتب: الاجتهاد في التعبّد لله بالقدر الذي يُتوصّل به إلى تخليص الإنسان من مختلف أشكال الاستعباد إلى أن يضيف: .. فالتعبد الذي يأخذ به المتزكي ليس استسلاماً للاستعباد طمعاً في ثواب الآخرة أو التقاءً بالشعور الداخلي فراراً من الواقع، بل هو التعبّد الحي الذي يُحرر الإنسان من نير العبودية ويرد إليه كرامته لأنه مقيّد في ذلك بمقتضيات الشرع. وهو المعنى نفسه الذي سَبق إليه مُبكراً الإمام أبو القاسم الجنيد (ت298 هجري) بعبارته المُسدّدة التي نصّ فيها على أنّ: العبد لا يكون عبداً لله حتى يكون مما سِوى الله حُرّاً ومن قبلُ حفظها الناس قاطبةً عن عمر الفاروق في سياقٍ من تعنيفه لعمرو بن العاص: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً. وعليه، فلا مجافاة للحقيقة الشرعية -فيما أحسب- حين الجزم بأنّ: إسلام المرء لله تعالى ليس يصحّ إلا بالتحرر التام من أي عبوديّة باطلةٍ؛ ذلك أنّ كلمة التوحيد: لا إله إلا الله لا معنى لها في واقع الأمر إن لم يتحرر قلب قائلها- على الحقيقة- من الانقياد لسواه متحررّاً من عبوديةِ مَن دونه على جهة الامتثال عملاً أو تركاً/ طوعاً أو كرهاً. وحسبك أنّ البدء لكلمة التوحيد بـ: لا إله فيه من الفقه بمعناه الأشمل- ما يجعل منها خطاباً قُدسيّاً /رساليّاً /شرعياً في نفي كلّ طاغوت صنماً كان أو وثناً داخلياً أو خارجياً عامّاً أو خاصّاً، بحسبان أن: الطاغوتيّةَ: بابٌ واسعٌ مما يندرج في سَعة مفهومها أيّ كاهونيتيّة كانت بلبوس رجلٍ للدين تارةً أو للحزب مؤسساً أو للسياسة سلطاناً ومستبدّاً. وليس يستقيم بالمعنى الذي قصدته- جعل الحرية من مقاصد الشريعة إلا بلجم: الحرية المنفلتة ذلك أنّ كلّ حريةٍ مطلقةٍ من شأنها أن تقوّض بنية المقاصد الشرعية الأخرى؛ إذ إنّ ما كان من الحرية يأتي: مطلقاً لا يُنتج بالضرورة إلا عدواناً وانتهاكاً لحقوق الآخرين كما أنّ الحريات المطلقة يتعذّر -هي الأخرى- أن تجتمع والأمن في مكان واحد! وإلا فأيّة قيمة لحريّةٍ لا أمن فيها؟! كما أنّه لا اعتبار لـ: حريّة إذا ما دخلت من النافذة خرج الخبز من الباب؟! وفي محكم التنزيل إيماءةٌ لهذا بقوله تعالى: الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، تلك هي الثّنائية، جناحا الحريّة: أمن لا خوف معه واستقرار لا جوع فيه. وخلاصة ما يمكن إيجازه هو القول بأنّ الحرية -من بعد التحقيق علماً ومعرفة- هي مقصد المقاصد الشرعية؛ ذلك أنّه ما من مقصدٍ شرعيّ إلا والحرية شرط في التوافر عليه. ولئن لم تأتِ مفردة: الحرية في النصوص الشرعية، فإن معانيها مبثوثة في نصوص الوحيين على نحو مستفيضٍ وبألفاظٍ خاصةٍ بالمفردة القرآنية. من هنا كانت الحرية فطرة الله التي فطر الناس عليها فلا تبديل لها بما سنّه الغربيون ولا نكوص عنها بما شغب به المرجفون.. وإني لأخشى على من يرفضون الحرية، من أن تكون حجر الزاوية فيما جاءت به الشريعة ويأنفون بالتالي من عدّها: مقصداً من مقاصد الشريعة، إني لأخشى عليهم من أن يكونوا على حالٍ يُشبهون فيها من يعبد الله على حرف!. كما ابتدأنا المقالة بكلامٍ مفتاحٍ لابن عاشور دعونا نقفله بقوله: ومن قواعد الفقه قول الفقهاء: (الشارع متشوف للحرية) واستقراء ذلك واضح من تصرفات الشريعة التي دلت على أن من أهم مقاصدها إبطال العبودية وتعميم الحرية، لكن دأب الشريعة في رعي المصالح المشتركة وحفظ النظام وقف بها عن إبطال العبودية بوجه عام وتعويضها بالحرية. نقلا عن الشرق
مشاركة :