بيروت - أعلن رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري الخميس من القصر الرئاسي في بعبدا اعتذاره عن عدم تشكيل حكومة جديدة في لبنان، بعد تسعة أشهر من تسميته، في خطوة من شأنها أن تعمّق معاناة البلاد الغارقة في أسوأ أزماتها الاقتصادية. ويواجه لبنان انهيارا اقتصاديا وصفه البنك الدولي بأنه أحد أسوأ حالات الركود في التاريخ المعاصر. وقال الحريري إثر لقائه رئيس الجمهورية ميشال عون لصحافيين، إن الأخير طلب "تعديلات" على الصيغة الحكومية التي اقترحها عليه الأربعاء، اعتبرها الحريري "جوهرية". وأوضح أنه اقترح على عون مزيداً من الوقت للتفكير بالصيغة التي اقترحها عليه الخميس، لكن الأخير أجابه "لن نتمكن من أن نتوافق". وأضاف الحريري "لذلك، قدمت اعتذاري عن (عدم) تشكيل الحكومة وليعين الله البلد". وقال في مقابلة مع قناة الجديد اللبنانية إنه لم يكن يفرض أي شروط على الرئيس عون، مشيرا إلى أن "عون يريد الثلث المعطل وهذه مشكلة". في المقابل ذكر بيان من مكتب الإعلام في رئاسة الجمهورية اللبنانية أن رفض الحريري لمبدأ الاتفاق مع رئيس الجمهورية ولفكرة التشاور معه لإجراء أي تغيير في الأسماء والحقائب، يدل على أنه اتخذ قرارا مسبقا بالاعتذار ساعيا إلى إيجاد أسباب لتبرير خطوته. وأوضح البيان أنه "بعد اعتذار الرئيس المكلف، سيحدد رئيس الجمهورية موعدا للاستشارات النيابية الملزمة بأسرع وقت ممكن". وذكر البيان أن الرئيس عون شدد على ضرورة الالتزام بالاتفاق الذي تم التوصل إليه سابقا "إلا أن الرئيس الحريري رفض أي تعديل يتعلق بأي تبديل بالوزارات وبالتوزيع الطائفي لها وبالأسماء المرتبطة بها، أو الاخذ بأي رأي للكتل النيابية لكي تحصل الحكومة على الثقة اللازمة من المجلس النيابي، وأصر على اختياره هو لأسماء الوزراء". إلى ذلك قطع عشرات المحتجين اللبنانيين، الخميس، عددا من الطرق في مناطق مختلفة من البلاد، عقب اعتذار سعد الحريري عن تشكيل الحكومة، واحتجاجا على الأوضاع المعيشية. قالت الوكالة الوطنية للإعلام، إن "محتجين قطعوا طريق المدينة الرياضية (غرب) بحاويات النفايات"، فيما وقعت مواجهات بين المحتجين وعناصر الجيش. وتم خلال المواجهات رشق عناصر الجيش بالحجارة، فيما رد الأخير بإطلاق الرصاص المطاطي في الهواء بمحاولة لتفريق المحتجين، وفق ما قال شهود. وفي سياق متصل ذكر شهود عيان، أن "محتجين قطعوا أوتوستراد (طريق رئيس) خلدة والناعمة (غرب بيروت) بالاتجاهين بالإطارات المشتعلة، عقب اعتذار الحريري واحتجاجاً على الأوضاع المعيشية". وللأسباب نفسها ذكرت الوكالة الوطنية للإعلام، أن "محتجين قطعوا عدة طرق في البقاع (غرب) منها في تعلبايا، ومثلث الفاعور، والروضة". وجنوبا قالت الوكالة، إن "عددا من الشبان قطعوا الطريق في جادة رئيس مجلس النواب نبيه بري البحرية بصور، وحطموا محتويات مطاعم ومقاهي وطردوا الزبائن منها، بعد سماعهم اعتذار الحريري عن تشكيل الحكومة". ولم تكشف عن حجم الأضرار في المطاعم والمقاهي وعددها. وشمالاً "قطع محتجون على اعتذار الحريري عن تأليف الحكومة، طريق الضنية - طرابلس في بلدة مرياطة بالإطارات المشتعلة" بحسب الوكالة. وفي صيدا (جنوب) ذكر شهود عيان، أن "شبانا قطعوا الطريق عند ساحة الشهداء بحاويات النفايات والعوائق، احتجاجا على الارتفاع الجنوني لسعر صرف الدولار، واحتجاجا على تأزم الوضع السياسي والمعيشي في البلاد من دون إيجاد حلول للأزمة". وسجّلت الليرة اللبنانية هبوطا قياسيا جديدا أمام الدولار الأميركي، الخميس، عقب اعتذار رئيس الوزراء اللبناني المكلف سعد الحريري عن تشكيل الحكومة في البلاد. وتراوح الدولار الواحد في السوق الموازية بين 19900 و20000 ليرة، مقارنة مع 19200 في تعاملات منتصف اليوم. وصرف الدولار صباح اليوم، بحوالي 19200 ليرة في السوق الموازية، في حين ما زال السعر الرسمي المحدد من المصرف المركزي عند 1510 ليرات. وفيما يواجه لبنان انهيارًا اقتصاديًا رجّح البنك الدولي أن يكون من بين ثلاث أشدّ أزمات في العالم منذ عام 1850، لم تتمكن القوى السياسية المتناحرة من تشكيل حكومة منذ 11 شهراً، منذ استقالة حكومة حسان دياب إثر انفجار المرفأ المروّع في الرابع من أغسطس/آب. ودفعت الأزمة المالية أكثر من نصف السكان إلى الفقر، وشهدت تراجع قيمة العملة بأكثر من 90 بالمئة خلال نحو عامين، كما ساهمت الأزمة السياسية في تدهور الأوضاع. والحريري الذي كلفه عون تشكيل الحكومة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، هو الشخصية الثانية التي تعتذر عن المضي بالتأليف بعد مصطفى أديب. وأمضى الرجلان الأشهر الماضية يتبادلان الاتهامات بالتعطيل جراء الخلاف على الحصص وتسمية الوزراء. ولم تنجح الضغوط الدولية التي مارستها فرنسا خصوصاً على الطبقة السياسية في تسريع عملية التأليف، رغم أن المجتمع الدولي اشترط تشكيل حكومة من اختصاصيين تقبل على إصلاحات جذرية مقابل تقديم الدعم المالي. واعتبر وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان الخميس في الأمم المتحدة أن اعتذار الحريري عن عدم تشكيل حكومة في لبنان يشكل "فصلا مأسويا إضافيا في عجز المسؤولين اللبنانيين عن إيجاد حل للأزمة في ظل الواقع الاقتصادي والاجتماعي" في البلاد. وقال لو دريان إن الإخفاق في تشكيل حكومة لبنانية جديدة أمر مروع، وانتقد الطبقة السياسية التي تحكم البلاد بأكملها، مضيفا إن "هذا التدمير الذاتي المستمر شهد للتو فصلا جديدا ولكن لا يزال الوقت متاحا للنهوض مجددا. هذا الأمر يضع المسؤولين السياسيين اللبنانيين أمام مسؤولياتهم"، مبديا أسفه لاتخاذ الحريري قراره قبل أيام من الذكرى الأولى للانفجار المروع في مرفأ بيروت. بدورها، أبدت الأمم المتحدة أسفها لاعتذار الحريري، وقالت متحدثة باسم المنظمة "نأسف لعدم تمكن المسؤولين اللبنانيين من الاتفاق على تأليف حكومة جديدة. نكرر دعوتنا القادة السياسيين للبلاد إلى التفاهم سريعا على تشكيل حكومة جديدة تستطيع مواجهة التحديات الكثيرة في البلد". في مواجهة انسداد الأفق السياسي، يتحرّك المجتمع الدولي للضغط على الطبقة السياسية. وأعلن وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي خلال اجتماع الاثنين توجّها لفرض عقوبات على قادة مسؤولين عن التعطيل قبل نهاية الشهر الحالي. ومن شأن اعتذار الحريري أن يفاقم من حالة الشلل السياسي الذي يعمّق معاناة اللبنانيين يوماً بعد يوم على وقع تدهور جنوني لقيمة الليرة وأزمة وقود ودواء وساعات تقنين في الكهرباء تصل إلى 22 ساعة. وفي ظل غياب بديل واضح للمنصب الذي ينبغي أن يشغله مسلم سني وفق النظام الطائفي في لبنان، فيبدو أن البلاد تتجه إلى أزمة مالية أعمق مع تراجع الأمل في تشكيل حكومة يمكن أن تبدأ في إصلاح الوضع. وتبدو الأزمة مرشحة للتفاقم مع اقتراب الذكرى السنوية الأولى لانفجار مرفأ بيروت الذي أودى بحياة أكثر من مئتي شخص وتسبّب بدمار أحياء من العاصمة. ولم يصل القضاء بعد إلى أي نتيجة حول من يتحمّل مسؤولية حدوثه، علما أن المؤشرات واضحة على أن الإهمال لعب دوراً كبيرا في انفجار مواد خطرة مخزنة عشوائياً.
مشاركة :