ما أن اغمض عيني لحظة الخلود للنوم حتى أسترجع شريط يومي، وأتذكر ذاك المريض الذي اختنق أمامي بسبب نقص الأكسجين، والمريض الآخر الذي فقدته بسبب مضاعفات فيروس كورونا من تجلط أو انسداد رئوي. أتذكر منظر ابن المريض وهو يستجديني أن أبذل قصارى جهدي كي لا يفقد والده، أتذكر منظر الأهالي وصراخهم عندما أبلغناهم بوفاة أمهم، تلك المناظر لها وقع شديد على النفس يصعب تجاوزه. لا أريد هنا أن أجعل ممن يتقدمون الصفوف أمام ذلك العدو الخفي أبطالًا، هؤلاء لا ينتظرون شهادة مني فهم أبطال حقًا، ولا أن أسرد بطولات شخصية، فكل ما قدمته يتقزم أمام جهود وتضحيات من هم أعلى مني في الوظيفة، ومن سبقني في الأزمة، الذين قدموا وما زالوا يقدمون أسمى معاني الإخلاص والتضحية، فمنهم أستمد عزيمتي وأشحذ جهدي وقوتي كلما شكوت التعب والإحباط. كل ما أريده هنا أن أنقل تجربتي البسيطة كطبيب حديث التخرج، تخرج فدخل هذا المعترك رغم حداثة عهده، اعتَقد أنه يتسلق سلم المسؤولية عتبة فعتبة، إلا أن الأزمة جعلته يتخطى خمس عتبات في كل خطوة. البداية الصورة: Getty بدأت وظيفتي وكلي أمل أن أسهم بشيء ولو كان يسيرًا في الأزمة الصحية التي خلقها فيروس كورونا، التحقت بهذه الحرب مع من سبقني من زملائي وأنا مفعم بالطاقة والنشاط، كنت أختار العمل في أجنحة كوفيد طوعًا، بل أقضي الساعات الإضافية وأطلب تحويل مناوبتي في الجراحة والتخصصات الأخرى غير المتعلقة بكورونا إلى الباطنية والعناية المركزة. حياتي كطبيب متدرب لم تكن كحياة زملائي قبل الأزمة، أستيقظ في الصباح للذهاب إلى عملي ولا أدري كيف سيفاجئني هذا الفيروس اليوم، أغادر المستشفى بعد ساعات العمل وكل ما يشغل ذهني كيف سأجد مرضاي في الغد، هل سأجدهم أحياء؟ كنت أخرج من منزلي ولا أعلم إن كنت سأعود بضيف ثقيل معي، فجعلت من ديوان بيتنا الصغير غرفة ومحجرًا لي خشية أن أنقل العدوى إن وُجدت إلى والدي السبعيني ووالدتي الستينية، تنازلت عن حياتي الاجتماعية لكي لا أسبب الأذى لأيٍّ من أقاربي أو أصحابي، ولخشيتي من العدوى أن تحول بيني وبين رعايتي لمرضاي. ما لم يكن في الحسبان كان حينما قدمت إلى الجناح صباحًا، ووجدت الممرضين يستنجدون بي بسبب تدهور حالة أحد المرضى، جريت نحو غرفته فإذ بذلك الشيخ الكبير مستلقيًا على الفراش بالكاد يلفظ أنفاسه. توقفت لوهلة لاستيعاب الموقف، كيف جاء إلى هنا؟ ولماذا أنا؟ لقد كان جاري العزيز الذي عشت طفولتي وأنا أراه وأقبل جبينه كل يوم في مسجد حارتنا، ينتظرني الآن لأنقذ حياته؟ كنت أرجو ألا يميزني خلف كمامتي وغطاء وجهي، حتى لا أدع مجالًا للعاطفة تتدخل في قراراتي، فما لبثت حتى استطاع تمييزي وناداني باسمي وأخبرني بما يشعر، كانت المرة الأولى التي يراني فيها كطبيب، والأخيرة. العمل في أجنحة كوفيد الصورة: كونا لا يخفى على أحد الاحتراق الوظيفي الذي نعانيه كأطباء، بسبب الخفارات الطويلة والساعات الإضافية والعمل خلال نهاية الأسبوع والإجازات الرسمية، ولا قصور وسوء أماكن الراحة مثل غرف الخفارة ، ناهيك بتعقد الحالات وكثرتها، وهذه الأمور كثيرًا ما تحدث عنها الأطباء سواء في الصحف أو وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة. تعاملي مع أجنحة كوفيد عرفني مدى الوعي العام، وكم كانت نظرتي هذه سلبية وسوداوية بسبب عدم التعاون الملحوظ من جهة، وكثرة الإلحاح على الطاقم الطبي من جهة أخرى. خلال تصفحي لوسائل التواصل الاجتماعي كنت أرى تجمعات الأعراس والندوات دون أي ضوابط، وينتابني سؤال: هل ما نفعله صباحًا يفسده الناس في المساء؟ كنت أرى التعليقات ومقاطع الفيديو التي انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي عن إلقاء اللوم على البروتوكول العلاجي ورفض الأدوية، وضرب كل توصيات الهيئات الصحية بعرض الحائط والاستماع لأقوال غير المختصين، بل والإيمان بنظريات المؤامرة، وانتشار الجهل والمكابرة ورفض النصح. كل هذا أدى إلى إرهاق الطاقم الطبي، المرهق مسبقًا بكثرة الطلبات والشروط الإدارية والضغط الذي يفوق قدرة أي إنسان. لا أعلم هل كنت مغيبًا عن هذا الواقع بسبب دراستي خارج البلاد، أم أنها لم تظهر بهذه الوضوح إلا بسبب الجائحة؟ كثيرًا ما كنت أرى الزوار مجتمعين عند باب الجناح حاملين الورود والحلويات والعصائر للمرضى، ومنهم من يأتي ليتشارك الغداء مع المريض، وآخرين مجتمعين حول أسرّة المرضى، وأذكر في أحد المرات أنني وبخت مجموعة منهم فأخبروني أنهم لا يعلمون أن المريض مصاب بالفيروس، وأنه أخفى عنهم إصابته بكورونا، وآخر يأتينا ليسأل عن حال قريب له رغم علمه بإصابته بالعدوى، معرضًا نفسه وغيره للخطر دون أي مسؤولية، بل إن منهم من يرفض حتى ارتداء كمامة الوجه، وهنا تأتيك قناعة راسخة أن التعويل على ثقافة الناس دون قوانين صارمة رهان خاسر. في فترة الحظر، ورغم استطاعتي الخروج من منزلي متى شئت، فإني كنت أكثر التزامًا من نسبة لا يستهان بها من الشعب، لدرجة أني أحيانًا كنت أنسى أنني خارج في ساعات الحظر لمناوبتي الليلية بسبب كثرة من هم على الطرق. وحتى خلال تصفحي لوسائل التواصل الاجتماعي كنت أرى تجمعات الأعراس والندوات دون أي ضوابط، وينتابني سؤال: هل ما نفعله صباحًا يفسده الناس في المساء؟ شهر العسل الصورة: كونا انقلبت نظرة الشارع للطاقم الطبي في بداية فترة الجائحة، فقضى الأطباء فترة أشبه بالـ« Honeymoon »، أو شهر العسل المعنوي الذي أشعر الأطباء أنهم أبطال محاطون بكل مشاعر الحب والفخر والدعم. إلا أن شهر العسل انتهى سريعًا، وانقلب إلى صراع واتهامات بالإهمال. لا أنسى أول مواجهة لي بعد أن فقدنا أحد المرضى، وبعد قضائنا وقتًا طويلًا في إنعاشه محاولين استعادته في ساعات الفجر الأولى، معرضين أنفسنا لخطر العدوى المتطايرة في غرفة المريض خلال إنعاشه. لكنه فارق الحياة، وفي لحظة إعلاننا الوفاة وقطرات العرق لا تزال على وجوهنا، سمعنا نداء لحالة أخرى أيضًا احتاجت للإنعاش، وإذ بأفراد عائلة الأول يستوقفوننا ليلقوا باللوم علينا لوفاة فقيدهم أثناء اتجاهنا للمريض الآخر، بل واتهمتنا العائلة بقتل المريض، ناهيك بالشتائم والدعاء علينا، والتمادي قد فاق تلك المرحلة حتى وصل إلى أن تعرض بعض الزملاء للتهديد بالقتل، ومنهم من تعرض للضرب والإيذاء الجسدي. أفتح هاتفي فأقرأ على وسائل التواصل الاجتماعي طعنًا وتشكيكًا في ذمم الأطباء، واتهامات بالتهاون في أرواح البشر، بل إن هناك من يتهمهم بأنهم مناديب مستأجرون لصالح شركات الأدوية والتطعيم ويشهر بأسمائهم. المحزن أنه عندما انتشر مقطع ضرب أحد أطباء العناية المركزة في المستشفى، كانت أغلب التعليقات متعاطفة ومدافعة عن الجاني، ووصل الحد إلى أنه عندما قابل تلفزيون الدولة الرسمي ممثل الجمعية الطبية للحديث عن تكرار حوادث الاعتداء على الأطباء، والذي كنا نأمل أن يضع النقاط على الحروف وينصف الأطباء، صعقنا ونحن نشاهد تنظير المذيع للأطباء، وجعل اللقاء كأنه محاضرة لهم في الأخلاق والتعامل، وكأنه يبرر تلك الاعتداءات. يشبه هذا ما حدث بعد وفاة أحد الفنانين بسبب مضاعفات كورونا رغم تلقيه التطعيم، وفي مقابلة مع والده ألقى باللوم على البروتوكول العلاجي، وعلى نحو أدق علاج الكورتيزون، لدرجة أن مرضانا صاروا يشترطون عدم تلقيهم الكورتيزون للموافقة على دخول المستشفى، ويرفضون التحويل إلى مستشفى جابر المخصص لمرضى كوفيد بحجة أن المرضى ينتكسون ويموتون بسبب سوء رعاية المستشفى، مما يضع الثقة في الخدمات الطبية محل شك. كنا نقضي الساعات والأيام نقنع المرضى بالعلاج، وللأسف كان الرفض شديدًا جدًا، ومبنيًا على اعتقاد راسخ من قبل الكثير حتى غادروا الحياة. لم تكن هذه الشائعة مقصورة على المواطنين فقط، بل انتشرت بين العمالة الأجنبية المقيمة في الكويت، إذ حدثني أحدهم عند تعافيه وخروجه من المستشفى أن بعض أصحابه المقيمين نصحوه حين علموا بإصابته بأن يظل في السكن ويتجنب الذهاب إلى المستشفى، لكن من الجيد أنه لم يأخذ بكلامهم وجاء بنفسه إلى المستشفى ليتلقى بعدها العلاج. الحرب التي نخوضها متعددة الأطراف، من جهة يأتينا الفيروس وتحوراته، ومن جهة أخرى نواجه المجتمع، ناهيك بالإرهاق والسخط من الواقع. تعددت الأسباب واحتراقنا الوظيفي واحد. بين التطعيم وكوفيد الصورة: كونا حين وصل التطعيم، وجدت أن الغالبية العظمى من مرضانا ليسوا من فئة المطعمين، وكنت ممن يحرص على سؤال المرضى عن سبب رفضهم له، وللأسف كانت الإجابات متشابهة جدًا، فهي إما بسبب أن التطعيم مؤامرة من شركات الأدوية، أو أنه أحد مشروعات الماسونية وبيل غيتس الذي يرغب في غرس شفرة متابعة تمكنه من التحكم في البشر، أو لأن التطعيم يدخل في الحمض النووي للإنسان ويغيره، حسب كلام أحد الأطباء غير المختصين على وسائل التواصل الاجتماعي. ما حدث حولنا في العالم خلال السنة والنصف الماضية من انهيار منظومات صحية في دول متعددة، بداية بالصين ثم إيران وبعدها البرازيل وجنوب إفريقيا والهند والآن تونس، يوحي بفكرة أننا قد نكون البلد القادم في هذه السلسلة من الانهيارات، مما يشعرني بالذعر من هذا المستقبل المجهول، خصوصًا أننا نواجه نقص التطعيمات وبطء وتيرتها ودخول المتحورات. المفاضلة في التطعيم يجب أن تكون حسب الحاجة الطبية لا الهوية. أصبت باليأس والتعب بعد أن راهنت شخصيًا على التطعيم لإنهاء الأزمة، ثم أتتنا أزمة أخرى في التطعيم وتوافره بسبب الشح العالمي في الجرعات، ناهيك بسوء التخطيط الذي جعلنا رهائن لنوعين من التطعيمات، وكأننا نعاني من الفيروس وحدنا في هذا العالم ونعتقد أن الجرعات ستصل إلينا بسهولة تامة، بالإضافة إلى انعدام الوعي والمسؤولية عند فئة لا يستهان بها من الشعب، مما أدى إلى فقدان الأمل في صلاح الحال وتجاوز الأزمة في القريب العاجل. كطبيب، أنا مناهض لبعض القرارات وكيفية تطبيقها على أرض الواقع، مع التنويه إلى أنني لا أشكك في جهد وتفاني وإخلاص المسؤولين عن هذا الملف، وأعلم أنه حمل ثقيل عليهم، بل أجزم أنه أثقل حمل وضع على كاهل مؤسسة حكومية في الكويت منذ الغزو العراقي. أنا أيضًا لست مختصًا بالوبائيات ولا الصحة العامة، إلا أن هنالك بعض الأخطاء والأشياء التي تعد من البديهيات التي لا تقبل النقاش، أولها تقديم المواطنين على المقيمين في التطعيم، والذي أراه سقطة كبرى على كل المستويات ويجب تداركها في أقرب وقت ممكن. عدم إتاحة التطعيم للجميع هو أهم أسباب عدم صلاح الوضع الوبائي القائم، فغالبية السكان من المقيمين، وظروفهم المعيشية تجعلهم أشد عرضة للإصابة بالعدوى وحدوث المضاعفات والوفاة. المفاضلة في التطعيم يجب أن تكون حسب الحاجة الطبية لا الهوية. أشعر بالخجل عندما يخبرني مقيم تجاوز الخمسين عامًا أنه سجل للتطعيم منذ ستة أشهر ولم يحصل على موعد إلى يومنا هذا، بينما يخبرني شاب يافع سليم من المواطنين عمره لا يتجاوز 18 عامًا أنه قد حصل على جرعته بعد أيام قليلة من تسجيله. هل سنحصل على إجابة شافية عن المسوغ لتفضيل المواطنين على المقيمين في التطعيم؟ من الممكن تفسير هذا الحديث بأنه قراءة سوداوية للحال، وسخط على الواقع الذي لا أعتقد أنه سيتحسن في الوقت القريب إلا بمعجزة إلهية، توفر اللقاح للجميع وتكرس إدراك الشعب بأهميته والالتزام بالضوابط الصحية وارتداء الكمامة، ومحاولة الوصول إلى نقطة التقاء ما بين المشككين في التطعيم والمؤيدين له بالحجة والأدلة العلمية، وتقديم صحة المجتمع بجميع شرائحه على أي شيء آخر. ربما تكون تجربتي ضئيلة جدًا مقارنة بتجارب من سبقني من الأطباء، الذين لم يتوانوا في أداء عملهم منذ أول يوم لهم في الجائحة. ورغم أنها كانت تجربة ثقيلة، فإنني لا أنكر أنها أعادت تأكيد كل الدروس التي نعتبرها من المسلمات، فالحال قد ينقلب في لحظة، ففي غضون أيام انتقلنا من الاحتفال بالأعياد الوطنية إلى الحظر والحجر والإغلاق ومواجهة المصير المجهول. أكدت لي الأزمة أن الطب أسلوب حياة، ولا يقتصر على ساعات العمل في المستشفى، وأن نبل المرء تُظهره الأزمات، وليس هناك عمل أنبل من سعيك لإنقاذ حياة غيرك بتعريض نفسك لخطر محتمل، فسلام على الأرواح الطاهرة التي فارقتنا وهي تواجه هذا الوباء.
مشاركة :