يعتبر مسؤولو بعض وسائل الإعلام المصرية أن موضوعات الجريمة وأسرار المشاهير والفضائح هي الحل السحري لعودة الجمهور مرة أخرى لمتابعة صحفهم ومواقعها الإلكترونية، متجاهلين أن الناس يبحثون عن أي منبر له مصداقية ومهنية، بالتالي فتسليط الضوء على الانحطاط قد يحقق مشاهدات لحظية، لكنه يساهم في انتشار الصحافة الصفراء. القاهرة – تسعى الهيئات المسؤولة عن تنظيم وإدارة الإعلام المصري لفرملة سباق الصحف والقنوات نحو التركيز على الجرائم والقضايا المثيرة، مثل قضايا الجنس والقتل والخطف ونشر شائعات عن وفاة شخصيات بارزة بغرض تحقيق السبق وجذب انتباه الجمهور للتصفح والمتابعة كمدخل للرواج على شبكة الإنترنت. وانتفضت أوساط مجتمعية وإعلامية ضد نشر بعض الصحف قبل أيام نبأ وفاة الفنانة القديرة دلال عبدالعزيز زوجة الفنان الراحل سمير غانم، وتبين لاحقا أنها ما زالت على قيد الحياة، ونشرت نفس المواقع التي أذاعت شائعة خبر الوفاة خبر النفي أيضا، وطالبت الجمهور بتحري الدقة قبل إلحاق الأذى بالآخرين. وأمام كثرة نشر الشائعات في الإعلام والتركيز على الإثارة دخلت دار الإفتاء المصرية على الخط وأصدرت فتوى استنكرت فيها استسهال نشر الأخبار الكاذبة وإذاعتها على منصات التواصل، واتهمت أصحابها بارتكاب الإثم والفاحشة، ودعت إلى ضرورة تحري الدقة قبل الخوض في حياة الناس واستباحة خصوصياتهم وأعراضهم. وأصبح التركيز على الموضوعات المثيرة والخارجة عن المألوف والعرف المجتمعي في صدارة المواد الإخبارية التي تركز عليها الكثير من الصحف والمواقع والبرامج التلفزيونية بحثا عن استقطاب أكبر عدد من الجمهور عبر خلطة تحمل مضامين جنسية وفضائح وجرائم قتل واغتصاب وتحرش وطلاق للمشاهير. الإعلام الذي يتناول الحادثة والقضية والجريمة بطريقة سطحية يعكس فجوة في المهنية وعملية انتشار اسم الموقع على منصات التواصل الاجتماعي بحثا ولا تتناول الصحيفة أو الموقع الحادثة المثيرة مرة واحدة، بل تتم متابعة كل تفاصيلها وإعادة نشرها على مدار اليوم طالما أنها تحظى بإقبال جماهيري، ثم يقوم المنبر الإعلامي بدور المحقق القضائي الذي يبحث عن الكواليس والأسرار الخاصة بالقضية أو الواقعة بزعم أن الناس يرغبون في معرفة المزيد عنها. وانشغلت بعض وسائل الإعلام المصرية خلال عطلة عيد الأضحى وما تزال بقضايا قتل أسرية، واعتنت بنشر الأسرار الخاصة بحياة كل زوجين على حده، والنبش في الأسباب التي دفعتهم إلى ذلك، والمثير أن مثل هذه الأخبار تكون في صدارة اهتمامات الصحف والمواقع متجاهلة الموضوعات الجادة التي يحتاجها الجمهور. وتمثل موضوعات الجريمة وأسرار المشاهير والفضائح بالنسبة إلى كثير من وسائل الإعلام الراغبة في تحقيق نسب مشاهدات عالية مادة خصبة لاستقطاب هواة البحث عن القصص والألغاز والمادة الصحافية المثيرة كنوع من التسلية، وتستخدم الصحف والمواقع الإخبارية تقنيات الفيديو والفيديو غرافيك في رسم خيوط الإثارة. وتؤمن نسبة من مسؤولي وسائل الإعلام بأن الاهتمام بالمواضيع المثيرة وجرائم المجتمع هو الحل السحري لعودة الجمهور مرة أخرى لمتابعة صحفهم ومواقعها الإلكترونية واستقطابه بعيدا عن منصات التواصل التي تقوم بنفس الدور تقريبا، وبدت في منافسة يومية مع الصحف والبرامج لنشر المزيد من الإثارة والأخبار الغريبة. ويتذرع مسؤولون عن صحف ومواقع إخبارية بأن التركيز على الجرائم والإثارة بديل حيوي لتراجع مستوى الحريات في مصر وفقدان ثقة الجمهور في ما يتم طرحه من موضوعات جادة، ما يعكس أن التوجه الحاصل قد يكون مقصودا ومتعمدا لعدم امتلاك المنابر الإعلامية بدائل أخرى لجذب من قاطعوا الإعلام. ويرفض خبراء الإعلام الترويج لمثل هذه الحجج، لأنه لا يمكن تبرير الإثارة والشائعة والتركيز على الجريمة بتراجع حرية الرأي والتعبير أو تصوير المجتمع على أنه منفلت وتسيطر على عقول أفراده الأفكارالشاذة، مثل الشغف بالجنس والتحرش والتربص بالآخرين ليبدو وكأنه خارج عن السيطرة. سامي عبدالعزيز: التركيز على الإثارة يسيء للإعلام أكثر مما يحقق له انتشارا سامي عبدالعزيز: التركيز على الإثارة يسيء للإعلام أكثر مما يحقق له انتشارا الصحافة الصفراء وأكد سامي عبدالعزيز عميد كلية الإعلام بجامعة القاهرة سابقا أن التركيز على الإثارة واستسهال نشر الشائعة ونفيها يسيء للإعلام أكثر ما يحقق له انتشارا، لأن الناس يبحثون عن أي منبر له مصداقية ومهنية، بالتالي فتسليط الضوء على الانحطاط قد يحقق مشاهدات لحظية، لكنه يكرس شيوع الصحافة الصفراء. ويشير مسمى الصحيفة الصفراء في مصر إلى أنها منبر فاقد للمصداقية والاتزان ويستهويه فقط نشر الكذب والموضوعات المثيرة، وهو توصيف يعكس الوصمة التي تلحق بالمنبر ويصعب التبرؤ منها بسهولة أو إزالة الصورة الذهنية السيئة عنه، وبمجرد ذكر اسمه مستقبلا سيكون متهما بانعدام المهنية. وقال عبدالعزيز لـ”العرب” إن تعامل بعض الصحف والمواقع بقاعدة ما يطلبه الجمهور لايرتبط بالمهنية والموضوعية، لأن هناك شريحة تهتم بالموضوعات المثيرة، لكن ذلك لا يعني اعتبارها استراتيجية إعلامية، ومواجهة إعلام الإثارة أول خطوة لبناء منابر مهنية معتدلة تحظى بثقة الجمهور. وثمة معضلة أخرى ترتبط بوجود قناعات شخصية عند مسؤولين عن إصدارات صحافية وبرامج تلفزيونية بأن التركيز على الإثارة والجرائم وربما الفضائح توجه لا تغضب منه الحكومة كنوع من إلهاء الناس وعدم تركيزهم على المشاكل الاقتصادية والسياسية، مع أن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي سبق ووجه لوما قاسيا للإعلام بسبب ما يقوم به من تشويه لصورة المجتمع. ويبدو أن إلهاء الناس بموضوعات جدلية كان مطلوبا من جانب بعض الدوائر الرسمية في فترات بعينها، تحديدا وقت الأزمات وارتفاع الأسعار وغيرها، لكن أمام استقرار الشارع وهدوء الأوضاع أمنيا لم يعد مرضيا لا للجمهور ولا للحكومة، لأن أخبار الإثارة صارت تغطي على إنجازات الأخيرة في قطاعات عديدة. فرئيس الدولة أو رئيس الحكومة عندما يقوم أي منهما بجولة تفقدية لمشروع عملاق يتم تناوله كخبر عابر بطريقة لا تجذب اهتمام القارئ، في حين يركز الموقع الإخباري أو الصحيفة على أزمة فنانة شهيرة أو جريمة قتل بشعة، وهنا تهتم الأغلبية بالموضوع المثير وتتجاهل المزايا التي يجنيها المجتمع من وراء المشروع الضخم. وصارت بعض الصحف الإلكترونية تلجأ إلى عناوين غير مألوفة وتستخدم كلمات توحي بالغموض والإثارة، مثل “للكبار فقط”، و”شاهد قبل الحذف”، و”فضيحة مدوية”، وهي كلمات تغري القارئ على المطالعة وتحفزه على التصفح، مع أن المضمون غالبا ما يكون بلا قيمة أو أهمية ولا يشغل القطاع الأكبر من الناس. ولا يمانع بعض خبراء الإعلام أن يتم تناول الأخبار المثيرة والجرائم وتقديمها للقارئ كنوع من المعرفة، شريطة ألا تصبح مثل هذه المواد الصحافية مهيمنة على السياسة التحريرية للصحيفة أو الموقع الإخباري أوالبرنامج التلفزيوني ويتم تقديمها بشكل احترافي يبغضها الناس، خاصة لو كانت جرائم شاذة. صورة متحضرة Thumbnail ويقول هؤلاء إن الصحافة الشعبية موجودة في كل دول العالم، لكنها تقدم المادة الصحافية وإن كانت تتضمن أخبارا مثيرة عن مشاهير أو جرائم من أي نوع بطريقة عميقة تتضمن الواقعة وأبعادها ومخاطر تكرارها، مع تحليل نفسي سلوكي هادئ، حيث تصل إلى القارئ في صورة متحضرة وتقدم إليه النصيحة والتوعية من خلالها. ويعكس الإعلام الذي يتناول الحادثة والقضية والجريمة بطريقة سطحية فجوة في المهنية وعملية انتشار اسم الموقع أو الصحيفة على منصات التواصل الاجتماعي بحثا عن “الترند”، خاصة أن هناك منابر صحافية تحتسب جهد المحرر وفق معدلات القراءات التي جاءت على أخباره وليس المضمون أو المحتوى الهادف. ومهما كانت بعض الصحف والمواقع والبرامج منفلتة في طريقة تناولها للأخبار المثيرة، فذلك لا يبرئ المتلقي من المسؤولية لأن إقباله بكثرة على مثل هذه الموضوعات يوحي للمسؤولين عن هذه المؤسسات بأنه يرغب في المزيد، مع أنه لو قاطع هذا المنتج لما تسابقت وسائل الإعلام لاستقطابه بمادة إعلامية غير مهنية.
مشاركة :