شهد رابع أيام الدورة الرابعة من مهرجان الشارقة للمسرحيات القصيرة في كلباء تقديم عرضين مسرحيين، هما الموت يستأذن في الدخول لوودي آلان، وهي من إخراج بدر الرئيسي، والفخ وهي نتاج ورشة الإقامة المسرحية، وأخرجها أحمد عبد الله وخليفة المطروشي، وأعدها يوسف بحري، وهما آخر عروض المهرجان. تصور مسرحية الموت يستأذن في الدخول رجلاً في آخر الخمسينات، كان جالساً يقرأ أخبار الغد في صحيفة، وفجأة أحس بحركة وبشيء يسقط من النافذة فنظر فإذا كائن بشري أمام وجهه، فسأله من أنت، فقال له إنه الموت وقد أتى ليأخذه معه إلى العالم الآخر، وهنا يبدأ حوار طويل بينهما، لا يصدق الرجل في البداية، ويبدأ في طرح الأسئلة على ذلك الشخص الغريب بهدف التأكد من هويته، فيسأله عن اسمه ومن أين أتى وإلى أين يريد أن يذهب به، ويقول له إن ملامحه إنسانية، وإن بينهما شبه، وليس للموت صفات إنسانية، وفي النهاية يصدق الرجل أن ذلك الكائن هو الموت، ثم يبدأ في مساومته، لعله يؤخر له أجله بعض الوقت، لكن الموت يرفض، ويبدو في عجلة من أمره، ولا يقبل بالمساومة، وبعد أخذ ورد يقبل الموت أن يلعب مع الرجل لعبة الكونكان نوع من ألعاب الورق ويراهنه الرجل على أن يعطيه نقوداً إذا فاز الموت، وفي المقابل يعطي الموت للرجل مهلة يوم كامل إذا فاز الرجل، وأثناء اللعب يبدو الموت متردداً، وقلقاً من قبوله باللعب، ونعرف من حوارهما أن الرجل ذو مال وله أولاد كبار درسوا وتخرجوا، وله زوجة سافرت، فحياته هانئة ولا يريد أن يختمها بهذه السهولة التي يريدها الموت، ويكسب الرجل الرهان ويفوز بأربع وعشرين ساعة إضافية، ويرحل الموت على وعد أن يعود غداً في الساعة نفسها، ثم يتصل الرجل بصديقه، يصف له ما حدث، ويبدو مرتاباً، هل ذلك الشخص هو الموت أو أحد يشبهه، لكنه يقول في النهاية إنه: متواضع ومغبون. قدم بدر الرئيسي المسرحية كما هي بتصرف بسيط في الحوار، وبإضافة نهاية ليست هي نهاية النص الأصلي، حيث جعل الرجل يحس بالألم في قلبه أثناء المكالمة، ويسقط وفي الوقت نفسه يظهر بصيص ضوء متصاعد نشاهد منه خيال الموت وهو يصعد إلى الأعلى كأنما يحمل معه روح الرجل، وقد اعتمد في عرضه على ممثلين لهما تجربة لا بأس بها في الأداء ويمتلكان أدوات التمثيل، وقد أضافت حيوية الممثل محمد حسن (الذي قام بدور الموت) ورشاقته في القفز والحركة، بعداً آخر، كما حاول المخرج أن يوظف المكعبات الخشبية بما يناسب المواقف، فجعلها تارة سريراً وأخرى مقاعد وطاولة للعب، وتارة مرتقى يصعد عليه الموت إلى الأعلى، وحاول أن يستخدم الإضاءة والمؤثرات الصوتية بما يوحي بجو الحدث، وتقلبات الحوار والمواقف لدى الشخصيتين، وكل تلك التصرفات توحي بوعي الرئيسي - الذي يقدم تجربته الثالثة في هذا المهرجان - بأسس الإخراج، وضرورات التصرف حسب مقتضى رؤية المخرج، والبحث عن حلول مناسبة، لكن الرئيسي انشغل بأمرين أثرا سلباً في العرض، وأخلا بدلالة المسرحية، أولهما تركيزه على ضرورة أن يسرد الممثلان الحوار بطوله وتفاصيله، مما جعل وتيرة الحوار تتسارع، حيث الزمن محدود ويجب الانتهاء من الحوار كاملاً في ظرف وجيز، وهذا قلل مساحة الاشتغال النفسي لدى الممثلين، وخصوصاً عادل سبيت الذي مثل الرجل، وكان دوره يحتاج إلى تأن وتفكير قبل كل كلمة يريد أن يقولها، لأنه كان يبحث عن طريقة للخروج من الورطة التي وجد نفسه فيها، وتعكس جمل الحوار التقلبات النفسية التي شهدها أثناء المحاورة، لكن مظهره لم يكن بعمق تلك التقلبات، والأمر الثاني هو أن النهاية التي اختارها الرئيسي كانت هي السبب في تلك السرعة التي ذكرناها، فالعرض كان يحث الخطى نحو تلك النهاية، رغم أنها ليست مهمة ولا تقدم دلالة كبيرة، فنحن نعرف أن الموت واقع لا محالة، سيان جاء اليوم أو غداً، لكن القيمة والفكرة هي في مراوغة الموت بممارسة الحياة، والانشغال بها إلى آخر لحظة، وذلك ما حاول وودي آلن أن يقوله في نصه. العرض الثاني الفخ وهو عرض مستضاف من خارج المهرجان، أنتج خلال ورشة الإقامة المسرحية التي أشرف عليها الفنان التونسي يوسف بحري، وتدرب فيها مجموعة من الشباب على طرق الإخراج، وقد تولى إخراجه اثنان من أولئك المتدربين هما أحمد عبد الله وخليفة المطروشي، وهو عرض تجريبي لكنه موجه برؤية فكرية توزعتها حالات متفرقة يمكن تأويلها في النهاية بواقع التيه الناتج عن تَشيُّئ الحياة الحديثة، واختزالها في بعدها المادي، حتى أصبحت الحياة مولاً كبيراً، فنحن نشتري كل شيء، قد ملأنا بيوتنا بالمشتريات وانشغلنا بها عن ذواتنا وعلاقاتنا، الزوجة تجري وراء صرعات الجديد، وتملأ بيتها بالمقتنيات، ومطبخها بالأدوات، لكنها أبداً لن تدخل ذلك المطبخ ولن تعد الطعام، ولن ينعم زوجها بأكلة من يدها، أو بكلمة جميلة منها، والأب خارج البيت تائه هو الآخر، وعلاقته بالأولاد هي مجرد هدايا يقدمها لهم، حتى أصبح يقدم لهم لعب الأسلحة كأنه يعدهم للحرب، والطفل تائه مع لعبته، وهم كلهم يبحثون عن مخرج مما هم فيه، فلا يجدونه كأنهم في سجن كبير، ويطل عليهم من الخارج رجل يذهب ويعود ويتفحص الوجوه والأشياء، يحسبونه في البدء لصاً، لكنه في الحقيقة شخص من خارج تلك الحياة أو المول الكبير، رجل كبير من الماضي من الأرض والحياة الإنسانية الطبيعية، جاء يستطلع حياة الحاضرين فوجدها تيهاً، فلم يرغب أن ينخرط فيها. الاشتغال الاحترافي ظاهر في المسرحية، من خلال الاستعانة بالسينوغرافيا لصناعة الرؤية وتأكيد مدلولات الحوار والحركة، فكانت الإضاءة متقنة ومتنوعة حسب المواقف، وكانت المؤثرات الصوتية والغنائية مناسبة للمواقف، وقد اجتهد الممثلون في أداء الأدوار المرسومة لهم، وظهر في أدائهم إثر التدريب الصحيح، حيث اشتغل العرض كثيراً على الأداء الجسدي المعبر، وكان مُغنياً في كثير من الأحيان عن الكلام، فجاءت بعض المشاهد صامتة، بيد أنها بليغة، لكن العرض وقع في مشكلة نسقية وهي محاولته مناقشة قضايا كثيرة في آن معاً، فلم يكتف بقضية واحدة، فقد بدأ بمعالجة قضية تحول الحياة مول كبير، لكنه أيضاً أقحم قضية المرأة وصمتها وحريتها، وكذلك قضية الحرب، وقضية التربية وتخلي الآباء عن مسؤولياتهم، وغيرها، وهي قضايا تحتاج كل واحدة منها إلى عرض درامي، ونقاشها في عرض واحد سريع مشتت للذهن.
مشاركة :