نحّات يطوع الصّوان ويرديه حريراً. الفنان التشكيلي اللبناني الراحل عارف الرّيس هو واحد من أعمدة الحركة التشكيلية الحديثة في لبنان. إنه من الأوائل الذين حملوا شعلة الحداثة الفنية. واظب وثابر وظلّ يصوّر الموت في لوحاته وكتاباته، حتى حلّ فيه وأخذه الى سرّه العظيم. عارف الريس الذي غادر الحياة فجأة، ترك نتاجاً فنياً وأدبياً وفكرياً فيه الكثير من الألوان والمعاني والأبعاد والدلالات المتعاكسة على أسرار الوجود. مع رحيله عارف انطوت صفحة من صفحات أعلام لبنانيين أعطوا الكثير، لكن أعمالهم تبقى بصمة نابضة في تاريخ الفن اللبناني، وتخلّد ذكراهم وتبقي أسماءهم محفورة في ذاكرة الوطن وأجياله. رسالة بيروت – إسماعيل فقيه (انطلاقته) ولد عارف الريس عام 1928 ورحل في 27/ 01/ 2005. انطلاقته الفنية كانت على يد الرسام الفرنسي لاسوس. هاجر إلى افريقيا باكراً، حيث يعمل والده هناك بالتجارة، ثم سافر الى باريس، وتنقّل بين مونبارناس وسان جرمان وأكاديمية لاغراند شوميير ومحترف حر للموديل الحي. وقد ضاع بين تيارات الفنانين الكبار الذين يبحثون عن هوية الإنسان الجديد بعد الحرب. أول معرض أقامه كان في العام 1948 في صالة «الويست هول» الجامعة الأميركية في بيروت. ثم قام كل من جوليان هسكلي وبيتر باليو، بنقل المعرض إلى اليونسكو. وعلى أثر ذلك، تعمّد عارف الريّس كفنان تشكيلي وتورّط بلعبة العرض والمعارض. أول لوحة كاملة رسمها كانت معقّدة بشكل مخيف، فقد كان متأثراً بما كتبه جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ومصطفى لطفي المنفلوطي عن روح الشرق وروح الغرب، وفكر كل من جبران ونعيمة. فحاول عن طريق الرسم أن يعبّر عن النسب الروحية والفكرية بين حضارة الشرق وحضارة الغرب، وأن يشرح التعقيدات الناتجة من استرداد الغرب لروحانية الشرق، واستيراد الشرق لمادية الغرب، وأهدى هذه اللوحة إلى نعيمة. في باريس، درس إلى جانب الرسم التمثيل الإيمائي على مؤسّس هذا الفن إتيان دوكرو (صديق بيكاسو ومالرو وماتيس وزادكيف وبريفير) وأستاذ لويس بارو ومرسيل مارسو. عام 1957 عاد إلى لبنان، وعام 1959، نال منحة دراسية إلى إيطاليا، حيث درس النحت مع بيرتي في أكاديمية الفنون الجميلة، وفي روما مع فانتوري وجياكوميتي ونيلو بوننتي. عام 1966، ساهم في إنشاء معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية، وعام 1980، انتقل إلى المملكة العربية السعودية، وبعد اثنتي عشرة سنة عاد إلى عاليه، وإلى محترفه يحلم، ويغزل في باله أشكالاً جديدة لمنحوتات جديدة. (الشخصية المميزة) كلما تعرّفنا إلى الفنان وفنّه، نتأكد ونشعر بمدى سيطرة طاقته الإبداعية على ايديولوجيته، ومثالياته الأخلاقية، وخبرته، ومدى تحكّمه في تأثير القواعد المحدّدة. من هذا المنطلق، فعالم عارف الريّس التشكيلي يستحيل ولوجه إلا من خلال بوابته الوحيدة التي هي شخصية الفنان، إذ المنحى السلوكي، سيطر طوال خمسين عاماً ونيّف على كامل إنتاج الريّس. فاللوحة لديه في حالة تفاعل بين حركتي الداخل والخارج، وربما أيضاً هي صيغة من صيغ العلاقة المتفجرة بين موقفين متناقضين. فجميع خياراته، سواء تلك التي قرّر عبرها أن يؤلف لوحة الموقف البصري، أم تلك التي قرّر من خلالها أن يخترع لنفسه عالماً سحرياً آخر، هي خيارات خارجة عن المألوف، لا توصل إلا إلى نهايات موحّدة تلتقي عند نقطة ارتكاز الموقف الشخصي لإنسان متعب ومليء بالقلق، على أرضية عمل فني مميز يحفل بجميع مواصفات الشخص الانفعالية، أمام هذا الكون المليء بالأسرار الجمالية في مكوناته الكاملة الصنع والمتجددة الوجه كالانفعال الحسّي. ومشكلة الربط بين حالة القلق الذهني عند عارف الريّس والتنوّع الهائل في موضوع اللوحة، ليست إصابة للسهم في قلب الهدف، إذ القلق، كان أكثر الحالات استقراراً عند هذا الفنان، حتى يمكننا من خلال القلق الوجودي أن نرتفع معه إلى حالة من الصفاء الغريب، الذي أوصل عارف إلى حدود القناعة المطلقة بمشاهداته البصرية. ينطلق عارف الريّس أساساً من إلحاح داخلي للإجابة والتعبير عمّا يعجز عن كشفه ومخاطبته بالوضوح العقلي المنطقي، لذلك مرّ بمراحل من الرمزية إلى شيء من السوريالية، وسقط دوماً في الواقع الغني بالمفردات التشكيلية، من التخطيط إلى اللون، وإلى كل ما يربط الإنسان ربطاً جذرياً بالأرض وأسرار الوجود، ويبقى هو الإنسان بحدّ ذاته السرّ الأساسي الذي يحمل الوسيلة والهدف لكل عمل. ولم يلتقِ بأسلوب محدّد، لأن الأسلوب النهائي بالنسبة إليه، اقتناع بقدرة فنية تنفصم عن قانون الطبيعة في البعث الدائم، والتجديد والتنويع. (الوعي التشكيلي) الفنان عارف الريس الذي شغف منذ طفولته المبكرة برسم وجوه الممثلات، وربما بعض المناظر المركبة البسيطة، أدرك أن علاقته بالرسم هي أوسع وأعمق بكثير من علاقته بأي أمر آخر، لذلك فقد حاول أن يثني كل شيء يصادفه لمصلحة حالة الرسم. فهو عندما يقرأ قصة «لقاء» لميخائيل نعيمة، يتعامل معها بروح تزاوج بين التحليل الفلسفي والتشريح التشكيلي. وأخطر ما عاناه الريس طوال حياته، هو أن يشعر، ولو لثانية واحدة، أن مغامرته ستكون محمّلة بنتائج تؤثر في الآخرين سلباً. لذلك، فهو الذي يواجه خسارته الذاتية بصمت، لا يستطيع أن يتحمّل فكرة تسبّبه في خسارة الآخرين. فهذا الفنان كان، وسيبقى الفنان العربي الوحيد الذي تنعدم عنده المسافة بين اللوحة والسلوك. إن فنه هو سلسلة من الحالات المتحركة المتحوّلة، إذ يرى أن عملية الإبداع الفني هي النقيض الكلّي لحالة التأمل الذهني السلبي. فاللوحة هي نتاج ادراك مزدوج ،حسّي وعقلي، والفنان الذي يعيش على الأفكار الخالصة، الجاهزة، لا علاقة لفنه بالحياة. فعارف الريس المعاصر المستمر، هو الممثل بحق لمرحلة خطيرة من مراحل تطور الحركة الفنية، وهو المؤثر أصلاً في تطلّعات أجيال أتت من بعد وأسّست أصلاً على مداميك تجربة هذا الفنان. (المرحلة الافريقية) من يطالع رسوم الريس ما بين 1955 و1957 (مرحلة وجوده في افريقيا – السنغال)، سوف يشاهد نمطاً من تنوّع تعبيري في حدود المحاكاة الشاعرية للطبيعة الافريقية. فهو قد عمد من حيث الأداء إلى خاصية القطع الأفقي لمسطح المساحة، وهذا ما يشير صراحة إلى الجانب المباشر في عملية التنفيذ، لكنه عندما كان يبدأ ببناء أبعاد اللوحة، يلجأ في الغالب إلى حالة من حالات التجهيز العميق – أي المنظور المحسوس بصرياً وشاعرياً، أبعد من الامتثال الأكاديمي، حيث أغلب لوحاته تحتوي على قوة متقدمة ومجموعة أخرى من القوى والأشكال الكامنة في عمق الصورة، وفق تحوّل الأشكال التشكيلية في اللوحة من المرئي المباشر إلى العالم الذاتي المتفاعل ذهنياً مع القيم الثابتة، لهذا الفنان الذي وعى جيداً أصول اللعبة الجمالية. فالمعالجة اللونية في المرحلة الافريقية، امتازت بحالة التركيز على الألوان الحارة المباشرة، وقد استغل عارف الريس، بشكل متفوّق جميع الخواص للون واللون المضاد. فهو عندما يعمد بالرسم الأبيض والأسود على الورق الرمادي، يدرك أنه «يشكّل» عبر الخط أولاً، وعبر الحيّز ما بين الخطّين ثانياً، وأنه سوف يتمكن بالتالي من السيطرة التامة على كل المفردات التي بدأ يوزعها لونياً، بغض النظر عن التناسق الموجود في الطبيعة، لأنه قرّر أن يخترع لنفسه قانوناً لونياً يتوازن مع طبيعة التأليف وجماليته المبتدعة من خصائص الألوان بحدّ ذاتها، كلغة تعبير عن حالة وواقع مرتبط بالواقع الطبيعي. حتى أن الريس الذي تعامل ثقافياً مع الخارج الافريقي، وجد نفسه في نهاية المطاف مغامراً بأبعد من ريشته وصولاً إلى الحقيقة التي يصبو إليها، ولا عجب أن يسعى خلال تلك المرحلة بالذات إلى دراسة الرقص الإيقاعي الفردي، بغية الوصول إلى ماهية الحركة عبر عملتها التي يتعامل بها الافريقي الفطري، ويعني بها الجسد. (الفن الجداري) مارس الريس الخلق الجداري بأساليب شتى، ابتداءً من اللوحة المنسوخة مروراً باللوحة الجدارية البارزة وانتهاء بالنحت البارز النافر، وأهم مرحلة من مراحل العمل الجداري عند الريس هي تلك التي نفّذها بالمواد الغرائية والرمل. فمن الناحية التقنية تقوم هذه المرحلة على قاعدة استعمال الغراء المائي كمادة لاصقة والرمل كمادة عضوية أساسية فيه، وهذه المادة الناتجة من مزج المادتين تمتلك خواصاً ثابتة بحاجة إلى معالجات تقنية أكيدة، حيث المطلوب محافظة المادة على خصائص اللون المقرّر حتى لا يفقد رونقه مع الزمن. ولقد عمد الريس إلى تقنية ناجحة في المعالجة النهائية لهذه المادة، فهو كان يعمد بعد أن يؤسّس بالمادة ما يرسم من أشكال ومفردات، إلى رش مواد غرائية إضافية تمنح المسطح وعناصره ملمساً ناعماً، وذلك لكي يخفف اللون أو لكي يزيده قوة. (الحروفية) أدرك عارف الريس كفنان عربي، النص الكامن وراء الكلمة، والمعنى الذي يتجاوز صوت الحرف وصولاً إلى تعبيراته، فسعى إلى تركيب آخر يتجه اتجاهاً معاكساً للاتجاه الأوروبي، أي أنه ببساطة غادر الغموض صوب الوضوح، فصارت الكلمة، نصباً عالياً يرتفع بجماليته إلى مستوى جمالية إبداع المبدع الأعلى. وعلاقة الريّس مع الحرف، تعود إلى ستينيات القرن العشرين، وقد دخل بشكل أو بآخر جميع منحوتاته والتآليف الرملية. وكانت بدايات عارف الريّس الحروفية العربية عندما استعمل في بعض لوحاته الكتابة، وقد وردت الكتابة في الفن الاسلامي الواسطي لإضافة الجديد على الزخرف. فالخط العربي كان شكلاً زخرفياً في هذه اللوحات، وهذه الإضافة لم تكن من أجل الكتابة أو إضافة المعنى، بل كانت إضافة شكلية، بمعنى أننا إذا أردنا تقييم الكتابة في هذه اللوحات لوجدنا أنها لا تستهدف زيادة اللوحة معنى أو تفسيراً، إذ انها جزء من شكلية الصورة. ( المنحوتة) إن عالم النحت عند الريّس، وإن كان عالماً متنوعاً بتنوع الموضوعات، إلا أنه يمتاز بخاصية وحدة الإيقاع التعبيري. فهو كان حاضراً في كل عمل نحتي من أعماله، ولم يبتعد بالمنحوتة عن مفاهيمه الإنسانية، وعن أفكاره الأساسية ونظرته للعالم والفكر، وهو في النحت بعد كل هذا بقي الطاقة الإبداعية الهائلة التي لا تنضب، لأنه الأقدر على إقحام أفكاره ومفاهيمه على عالم الكتلة. إن الكلمة لدى الريّس لها مضمونها في معناها، وهي ليست بحاجة أن تتجسّم في الشكل الذي تعنيه، إنما دور الفنان أن يأتي بعمل جمالي منحوت عبر تأليف هذه الكلمة تأليفاً هندسياً متماسكاً من حيث الأحجام، مع بناء نصبية هي عملية تحويل المنمنم من الكلمة والحرف إلى أبعد ما يمكن لخيال الفنان من إبداعه في مجال التجسيم، مع الأخذ بعين الاعتبار تفاعل الحجم مع النور والفضاء والمساحة. المنحوتة التي ينجزها الريّس هي هندسية عامودية من حيث بنائها المظهري، ولكنها على المستوى التعبيري تنهض وفقاً للاعتبارات التالية: إن شموخ المنحوتة عبر حروفها الطالعة تمنح المشاهد شعوراً بالعزّة. إن التقنية التي اعتمدها في عمله هذا، ركزت على الإضاءة الذاتية للعمل، حيث من المعلوم أن النهار الصحراوي يحمل طاقات ضوئية هائلة، بينما الليل يناقضه في الإضاءة لدرجة صفاء العتمة المطلق. من هنا، أراد أن يخلق حالة من حالات التوازن بين المتضادين (الليل والنهار) عبر عنصر الإضاءة الداخلية للمنحوتة. إن حجم المنحوتة وارتفاعها يصل إلى 5.82 متراً. وهذا يعني أن مدى الرؤية البصرية لها، لا بد وأن تكون ضمن منحوتة أخرى، الأمر الذي دفعه إلى اعتماد التفاصيل التي تُقرأ من أبعد مسافة ممكنة. لقد منح المنحوتة صفاء الكشف الرباعي، فمع دوران المشاهد حول المنحوتة يكتشف أبعاداً جديدة لها. وبكلمة موجزة، ان عارف الريّس فنان أطال البحث عن أعماق الأشياء ليجد الإجابات المقنعة لتساؤلاته حين يصطدم بالعوالم الأخرى. هكذا طبيعته، إنسان سعى إلى النور بعمـق وعنـف، وداعب المأساة بوحشيـة فنية، ودغدغ أحـلام الفـقراء والسوط بيده، وأسبـاب ذلك هي ارتباطه الداخلي الوثيق بكل ما هو موجود على سطح الأرض. إنه فنان لم يقف على هامش المواقف، وهذا هو الجانب الملتزم عند عارف الريّس. الريّس كان سيد الإحساس وابن ضحكة الموت، صاحب الضحكة المستمرة التي تخرج من القلب وتتوزع محبة وحناناً على كل من تطوله أنظاره. الذوق الرفيع المتنوع المنسّق يسود ضحكته وطلّته، وكل لقاء مع ريّس الإحساس لا حدود فيه للسنين، لأن حساب العمر لديه لا يقتصر على المهل الصغيرة، بل يستمر على مدى الزمن، وفي ذلك بقي عارف الريّس شاباً في كل ما يفكر فيه ويشعر بأثره، فرفض الشيخوخة، ورفض النضوج، ورفض الاستقرار، كما تعارك مع الجسد بالعصا والضحكة والمعنويات المرتفعة التي فاضت غالباً عن حاجته فوزعها على كل من التقاه أو قابله. ولَجَ باب الفن من دون طرقه، هبطت عليه من علٍ موهبة الرسم والتعبير بالريشة وجمع الصور، فإذا بلوحاته معبّرة، وإذا بجمالياته تواجه العقول المغلقة نفسها، وتوصل الأفكار إلى القلوب التي لا تستجيب إلا في القليل. استذكرك اليوم يا عارفا بحالنا وما وصلنا اليه من مشقات، وتحفر فينا منحوتة الصبر
مشاركة :