الروائي جبور الدويهي .. حكاية نزوح وسجون وشجون

  • 7/29/2021
  • 00:04
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

"اسكن في قلب أسد، ولا تسكن في قلب إنسان.. فالإنسان كما يقال، بئر عميقة معتمة"، عبارة ارتمت من على رفوف المكتبة، فاقتحمت عقلي وقلبي بسلاستها، وأيقظت سلاسل الحشرية الموجودة داخل كل منا، فأمسكت بالكتاب و"فلفشت" بين أوراقه كأنني أبعثر حفنة من أوراق الورد، وأنتظر رؤيتها تطير نحو السماء، ضائعة بين نسمات الهواء، فإذا بالكتاب الذي يحمل اسم "سم في الهواء" للكاتب جبور الدويهي يطير من على رفوف المكتبة ليستقر في حقيبتي. وصلت المنزل، وضعته بين رفاقه من الكتب التي أتوعد قراءتها، رغم أنني لا أجد الوقت الكافي في ظل ما يعصف بحياتنا من مشاغل وهموم، لكني كنت دائما متوضئة بخرير الأمل، متيقنة بعظمة الحروف ومتعطشة للقصص التي تشعرني بالنشوة الأدبية، ومرت بضعة أيام والكتاب يستأنس برفاقه، إلى أن صعقت في أحد الصباحات المشرقة بخبر قاتم، هو وفاة الكاتب جبور الدويهي. بداية محزنة لقراءة ممتعة توجهت إلى رفوف مكتبتي المتواضعة، وعاودت "الفلفشة" بين أوراقه الـ207، أقرأ بسطحية رواية، بطلها الراوي الذي ينخرط في سرد الأحداث انطلاقا من ذاته ومن منظوره، شعرت لوهلة أن شيئا ما قد فاتني وأن الحياة غدارة، التقطت أنفاسي، وبدأت ارتشاف قهوتي على استهلالية الفصل الأول "سِفر الخروج"، تعرفت خلاله على الراوي، الابن الوحيد لأم دائمة القلق على وحيدها، وأب يعمل في صناعة الأحذية، وعمة مصابة بشلل نصفي، يعيشان في طرابلس قبل أن ينتقلا إلى حي آخر، "حملت أمي أوعية أزهارها والإنجيل، تمسك أبي بالبريل كريم يلمع به شعره، وبقارئ الأسطوانات وأغلبيتها بصوت محمد عبدالوهاب، جمع عدة مصلح الأحذية ونقلها إلى البيت الجديد، لأن وصوله إلى حانوته الواقع في الحي المقابل بات غير آمن". فصل عاطفي يستكمل الكاتب في فصل آخر يحمل عنوان "مراس الحب والكتابة" رحلته، فيتعرف على فتاة، سألته عن الحياة في البلدة الجديدة، فأجابها "هذه القرية أشبه بالمنفى الجميل لأصحاب النفوس المكسورة، الهاربين من أعباء العيش توقا إلى سكينة مستحيلة"، وكانت تلك البداية لعلاقة جنونية يصفها الكاتب بالتفصيل المشوق، فكان يكتب لها، يقول: "أي لذة ستجد صديقتي عندما أكتب لها في إحدى الرسائل: الأموات يحدقون فيما حولهم، لا يصدقون انفعالنا، أبله الساحة يشرب من عين الماء ويضربه الحنين إلى بلاد لم يغادرها"، وما كاد هذا الفصل أن ينتهي حتى انتهت قصة الحب، فيقول: "لا تأمنن إلى النساء ولا تثق بعهودهن.. فرضاؤهن وسخطهن معلقان بصدورهن"، وهذه النهاية كانت البداية للانتقال من مصر إلى بيروت. نحو السياسة وهنا بدأ فصل "قمقم المدينة"، حيث بدأ الراوي ينخرط في العمل السياسي "سافرت مع صديقين جديدين إلى عمان في الطريق إلى غور نهر الأردن للالتحاق بالعمل الفدائي"، يروي لنا ماذا كان يفعل هو وصديقه الذي يتحول إلى خطيب في شارع المصارف ضد الرأسمال المالي، "يلفت أنظار المارة ويسترسل حول الدين والمدرسة والعائلة، يسميها أجهزة الدولة الأيديولوجية التي تعيد إنتاج علاقات السيطرة الطبقية بالتدريب على الطاعة وقبول الظلم كما هو، ومعاقبة الخوارج المتمردين". واستمرت قضية النزوح في فصل جديد يحمل عنوان "أبيفانومان"، حيث انتقلا إلى منطقة الأشرفية، التي استقبلتهم في فصل يحمل اسم "أشباحي الأليفة"، كالناجين من هلاك مؤكد، "شدوا على أيادينا ورحبوا بعودتنا بين أهلنا.. كدت أصحح لهم أننا لسنا من العائدين لأننا لم نقم هنا يوما، بل نحن وافدون جدد، نضيع في شوارعهم التي اكتشفت أنها تلتف حول بعضها كالمتاهة، كلعبة السلالم والأفاعي، لكنني لم أرغب في تنغيص فرحتهم بنا". يفوز بالنساء يترك أهله والبيت وينتقل للعيش وحده في أحد فنادق العاصمة البسيطة، غريبا بين أناس يجهلهم ويجهلونه، ويبدأ في "فصل النساء" وهو يروي ما جرى له من مغامرات مع النساء، ينتهي به الأمر مطرودا من الفندق بعد استياء صاحبه من مغامرته مع زوجته "كان فوزي بهن سهلا في فندق العبور هذا.. أبسط لهن أحيانا ألغاز الشرق بلغتهن الأم، فآخذهن بدوري ستارا أطيل به ذهولي عن الثقب الأسود في حياتي". زواج ثم سجن انتقل إلى حياة جديدة في منزل مستقل مع معلمة الفلسفة، التي تزوجها بعد أن تحول إلى "الأشوري المؤقت"، هذا المذهب الذي اعتنقه مؤقتا ليتمكن من الزواج بها، بعد تعذر عقد قرانهما عند أي من طائفتيهما. انتقال آخر مهم ولافت يحدث في حياته، إثر دخوله السجن حيث أمضى ما يزيد على عامين، بعد ضربه زوجته وكسره يدها واتهامه بمحاولة قتلها، ويبدو أنه دخل السجن طوعا "سجينا متطوعا"، راضيا بمصيره. مصير مأساوي للأصدقاء وفي فصل "السويداء"، يبدو مستخفا بكل ما في العالم الخارجي، بماضيه كما بمستقبله، ويبني علاقات إنسانية مع السجناء ويخرج منه بصداقة تركت أثرها في نفسه لاحقا. بعد خروجه من السجن يجد نفسه وحيدا بعد غياب آخر أصدقائه ورفاقه في الحياة، ابن خالته أسود البشرة الذي عاد إلى إفريقيا، وصديقه السوري الكردي الآتي من سورية وقد تعرف إليه في السجن، وكان الراوي قد ساعدهما ماديا ومعنويا، غادر كل منهما إلى البلد الذي أتى منه "ياماسوكرو وتل الذهب" إلا أنه يكتشف أن كليهما لقي مصيرا مأساويا، الأول يختطف ويختفي، والثاني يموت غرقا في محاولة هجرة غير شرعية إلى أوروبا. العزلة الأبدية يقرر هجر المدينة وضواحيها، وينقب عن بيت معزول في قرية مشرفة على بيروت، حيث يدخل في عزلة طوعية وكلية منقطعا عن العالم، وفي ختام روايته يقول: "الآن بعدما دار الزمن دورته كاملة، سيقرع الرجال بابي.. سيأتون عند انبلاج الفجر وسأكون نائما، سأستفيق ولن أفتح، ولن أسأل صارخا من هناك؟.. سيقدمون على خلع الباب.. يدورون على أنفسهم فلا يجدون شيئا، المكان مكشوف ولا مجال للاختباء فيه، سيسقط في أيديهم ولن يعرفوا أنني لوحت بجناحي، وفي أول إقلاع صباحي، حلقت مع الحمام بعيدا نحو السماء الزرقاء حيث اختفيت، أنا والرف في الأفق البعيد". أغلقت الرواية مقشعرة البدن، ها هو الكاتب جبور الدويهي يودع قراءه برواية، يلمح في نهايتها إلى الموت، كأنه كان يشعر أنه على أعتاب الرحيل، فأصدر الرواية ورحل، دون أن يشهد نجاحاتها، فهنيئا لنا بالإرث الثقافي الذي تركه الراحل، وله الرحمة في مثواه الأخير. حياته ومؤلفاته بدأ جبور الدويهي حياته الأدبية بمجموعة قصصية عنوانها "الموت بين الأهل نعاس"، صدرت 1990، لتأتي بعدها روايته الأولى "اعتدال الخريف" 1995، بعد ذلك نراه يتمركز في حكاياه أكثر في طرابلس وزغرتا من خلال "ريا النهر" 1998، و"عين وردة" 2002، و"مطر حزيران" 2006، و"شريد المنازل" 2010، و"حي الأميركان" 2014، و"طبع في بيروت" "2016، و"ملك الهند" 2019، ومن ثم "سم في الهواء".

مشاركة :