تمخضت ثورات العرب الأخيرة عن موجة من العنف الدامي التي بدأ يتعاظم معها الإدراك بضرورة إنجاز مهام التنوير كشرطٍ لازم للدخول إلى العصر. لكنه بدا أن هذا التنوير يتحول- كغيره من المفاهيم المتداولة في عوالم العرب- إلى موضوعٍ للالتباس وسوء الفهم على النحو الذي اقترب به من أن يكون باباً للدخول إلى الفوضى، وليس إلى العصر. ولقد ارتبط ذلك بحقيقة أنه إذا كانت الحرية هي القيمة الكبرى التي يقوم عليها بناء التنوير فعلاً، فإنه بدا وكأن ثمة تجاهلاً كاملاً لحقيقة أن هذه الحرية إنما تتحدد بالعقل على نحوٍ يكاد أن يكون مطلقاً. إذ يبقى العقل وحده هو القوة القادرة حقاً على تحرير الإنسان من قبضة الضرورة التي تحكم عوالم الطبيعة والمجتمع والتاريخ. ومن دون العقل يظل الإنسان ممسوكاً بقيود الضرورة؛ حيث تتضاءل حدود حريته إلى الحد الذي لا تخرج فيه عن نطاق إشباع الميول والأهواء التي ينحط معها الإنسان إلى مرتبة الحيوان. إن ذلك يعني أن حرية لا تتحدد بالعقل إنما ترتد بالبشر إلى عالم ما دون الإنسان. وإذ لا تنفك الحرية - والحال كذلك- عن العقل، بل إنها تكون مشروطةً به على نحوٍ كامل، فإنه يلزم أن ما يحكم بناء العقل لا بد أن يكون حاكماً لمملكة الحرية. وهكذا فإنه إذا كان العقل بناءً يتطور عبر التاريخ، فإن ذلك يعني أن الحرية لن تكون جوهراً يمكن للبشر أن يُمسكوا به مكتملاً وجاهزاً في اللحظة التي يقررون فيها ذلك. بل إنها تكون مشروعاً مفتوحاً تصنعه الجماعات البشرية المختلفة في قلب تجاربها التاريخية المتباينة، وليست نموذجاً مثالياً أو وصفةٍ جاهزة تقبل التعميم على كل الجماعات بصرف النظر عن مستويات تطورها العقلي. وإذ يبدو- تبعاً لذلك- أن ممارسة الحرية تنضبط - أو حتى تتحدد- بمستوى التطور العقلي للجماعة، فإن ذلك يحيل إلى جوهرية إنجاز التنوير العقلي كشرطٍ لازم لهذه الممارسة في الاجتماع والسياسة مثلاً. وضمن هذا السياق، فإن تعريف الحرية لا يعني أن يفعل الفرد ما يشاء في اللحظة التي يقرر فيها ذلك، وبمعزلٍ عن مستوى التطور العقلي للجماعة التي ينتسب إليها، بل الأمر يتعلق بما يسمح مستوى تطور الجماعة العقلي للفرد بإتيانه من الممارسات في لحظة بعينها في مسار التطور العام. ولعله يمكن القول- حسب فيلسوف التنوير الألماني الكبير إيمانويل كانط - أن الحرية التي لا تتحدد بالعقل ومستوى تطوره، لا تكون مُفيدة للتنوير، بل إنها تكون- وللغرابة- مُعيقة له على نحوٍ شبه كامل. ومن هنا مفارقة أن ما يمارسه البعض من مُدَّعي التنوير في العالم العربي يكون بمثابة عبءٍ كامل على قضية التنوير ذاتها. ويرتبط ذلك بحقيقة أن ما يمارسونه مما يقولون إنها حريتهم قد يشتطُّ أحياناً، ولا يحدد نفسه بمستوى التطور العقلي الذي تعرفه المجتمعات العربية. ولعل قيمة كانط في هذا السياق تتأتى من أن مستوى التطور العقلي والاجتماعي والسياسي الذي عرفته ألمانيا في القرن الثامن عشر يتماثل إلى حدٍ كبير مع مستويات التطور الراهن في المجتمعات العربية. ومن هنا إمكان الاستنارة بما مضى إليه في مقالته الشهيرة: ما هو التنوير؟ كمدخلٍ لمقاربة الوضع الراهن في العالم العربي. فقد مضى، في هذه المقالة الذائعة، إلى أنه إذا كانت الحرية هي الشرط الجوهري اللازم لفعل التنوير، فإن ثمة من هذه الحرية ما يكون مُفيداً للتنوير، وثمة منها ما يكون- وللغرابة- مُعيقاً له. فإنه إذا كان التنوير لا يعني ما هو أكثر من تجاوز حال القصور واستعمال العقل من غير جبنٍ أو كسل، فإنه يرى وجوب التمييز بين نوعين من هذا الاستعمال للعقل. فإن ثمة الاستعمال العمومي للعقل الذي يجب- على قوله- أن يكون حراً تماماً، وهو وحده الذي يمكن أن يؤدي إلى تنوير الناس. وثمة من جهة أخرى الاستعمال الخصوصي للعقل الذي يمكن تقييده بصرامة من دون أن يكون هذا التقييد مُعيقاً للتنوير، بل لعله يفيده. ويعني الاستعمال العمومي للعقل ذلك الاستعمال الذي يقوم به شخصٌ ما بوصفه رجل فكر أمام الجمهور العام، وأما الاستعمال الخصوصي للعقل فإنه يشير إلى ذلك الاستعمال الذي يقوم به المرء بصفته يتقلَّد منصباً أو وظيفة مدنية ما أمام جمهور بعينه. ويضرب كانط مثالاً لذلك برجل الدين الذي يكون ملزماً- في استعماله الخصوصي لعقله- بأن يعلِّم تلامذته وجماعته حسب مذهب الكنيسة التي يخدمها، لأنه قد تم تعيينه في هذه المهمة على أساس هذا الشرط. ولكنه يتمتع في استعماله العمومي لعقله، كرجل فكر، بكامل الحرية في أن يفضي للجمهور الواسع بكل أفكاره المدروسة بعناية والمنبثقة عن نية حسنة حول ما هو خاطئ في ذلك المذهب واقتراحاته الرامية إلى تدبير أفضل للنظام الديني والكنيسي. ولعله يمكن القول إن الإنسان في استعماله العمومي لعقله إنما يفكر لبني البشر على العموم، وأما حين يفكر لجماعة ما في لحظةٍ بعينها، فإنه يستعمل عقله استعمالاً خصوصياً لا بد أن يكون مربوطاً بجملة الشروط العقلية والتاريخية التي تعيشها تلك الجماعة. وضمن سياق هذا التمييز، فإنه قد يكون هناك قانونٌ ما يفرضه مستوى تطور الجماعة لإرساء النظام. ومع أنه قد يكون هناك قانون أفضل تعرفه جماعات أخرى تعيش في مستوى تطور مختلف، فإن على رجل التنوير أن يقبل بالقانون الأول مع العمل على خلق الشروط التي تؤول إلى زحزحته ونقضه. وهكذا فإن من رأي كانط أن يبقى النظام الذي تم إرساؤه قائماً مهما كان قاصراً من زاوية الاستعمال العمومي للعقل؛ وذلك إلى أن يبلغ الفهم درجة متقدمة تسمح بتفكيك الشروط التي تؤسس لبقاء هذا النظام. إن ذلك يعني استحالة التفكير في مسألة التنوير استناداً إلى مجرد الحرية الخاصة للفرد، وبمعزلٍ عن مستوى التطور العقلي والتاريخي لجماعة بعينها، وإلا فإن هذا التفكير سيكون عبئاً على قضية التنوير ذاتها.
مشاركة :