الموروث الشعبي الحاضر الغائب (2)

  • 10/17/2015
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

(أشرت في المقالة الماضية، باختصار شديد، إلى مفهوم الموروث الشعبي وتطور الاهتمام به في الغرب وفي الوطن العربي ومنطقة الخليج والمملكة بوجه خاص، وتوقفت عند الأسباب المحتملة لضعف الاهتمام المؤسسي العلمي بذلك الموروث على الرغم من مظاهر الاحتفال به والمساعي لإحيائه، وأتابع هنا مناقشة الموضوع). إن غياب الاهتمام المؤسسي، الذي سبقت الإشارة إليه، لا يعني غياب ذلك الفرع الكبير من الثقافة عن الفضاء العام، عن المعرفة المنتجة من بحث ودراسة وتأليف، فقد عني الكثير من الباحثين بملء الفراغ الذي تقاعست عنه المراكز المتخصصة والأقسام الأكاديمية ورأينا عدداً من الباحثين يتصدون لهذا المجال منذ عقود وعلى النحو الذي ترافق مع النهضة الثقافية والأدبية في المملكة. ظهر أولئك الباحثون في مناطق مختلفة من المملكة يجمعون الحكايات والأمثال والقصائد، ويؤرخون لفنون زخرفية وصناعات يدوية وغير ذلك مما يتصل بالتراث الشعبي. خالد الفرج، أحمد السباعي، حمد الجاسر، عبدالكريم الجهيمان، أحمد عسيلان، عبدالله بن خميس، سعد الصويان وغيرهم كثير عنوا بالموروث الشعبي من جوانب مختلفة. بل إن كل من كتب عن تاريخ المملكة أو تاريخ الجزيرة العربية الحديث لم يستطع أن يتجاهل الموروث الشعبي بوصفه مصدراً رئيساً للمعلومة وللرؤية المتعمقة في حياة الناس وثقافتهم وتواريخهم سواء على مستوى المجتمع ككل أو الأقليات أو الأفراد. لقد تنامى الاهتمام بالموروث الشعبي في أوروبا، في ألمانيا على وجه التحديد، بوصفه، حسب تعبير، المؤرخ والفيلسوف الألماني هيردر، روح الشعب وحامل خصائصه القومية. كان ثمة سعي لاستنهاض روح الشعب ومعاني الوطنية والقومية وكان الفولكلور هو الخزان الضخم لكل ذلك، كما بدا لهيردر ولمؤرخين ومفكرين ليس في ألمانيا وحدها وإنما في أنحاء أخرى من أوروبا. ذلك التصور وما قاد إليه من بحث يبدو لنا اليوم مبالغاً به، سمة من سمات الرومانسية المثالية التي منحت الفولكلور حجماً واهتماماً يتناسب مع اضمحلال الأسس التقليدية للثقافة الأوروبية في عصر التنوير. لكن ذلك الاهتمام تمخض عنه اهتمام متصل سواء في أوروبا أو في غيرها من مناطق العالم. ومن تلك منطقتنا كما سبق أن أشرت. لكن اهتمامنا اليوم، كما هو اهتماما ثقافات أخرى بموروثاتها الشعبية، لا يأتي من ذات التصور الذي كان وراء اهتمام الأوروبيين. فأسس الانتماء القومي والوطني يأتي إلينا من مصادر كثيرة، أحدها هو الموروث الشعبي. الانتماء القومي والوطني والهوية الثقافية متعددة المصادر لكن لاشك أن في الحياة البسيطة التي عاشها الناس على مدى قرون وما تنامى أثناءها من تصورات للعالم انعكس في الحكايات وترنم في الأغاني، اختزل في الأمثال ورقص في الرقصات، وارتسم على المصوغات والمصنوعات، لاشك أن كل ذلك يحمل الكثير من روح الناس وبساطتهم. وكما قال الشاعر العراقي سعدي يوسف: كل الأغاني انتهت إلا أغاني الناس والصوت لو يشترى ما تشتريه الناس. ثمة صدق وانتماء، ثمة أصالة، لا يختلف عليها أحد حين يأتي الأمر إلى أغنية شعبية أو حكاية شعبية. تلك سمة واضحة في الموروث الشعبي حيث كان. ففي ذلك النتاج المجهول المؤلف غالباً ما نلمس روحاً بسيطة نابضة بالصدق والعفوية، روحاً غائرة في لحمة الانتماء. قد لا يكون ذلك النتاج مما نسيغه دائماً لكنه مما لا نشكك في أنه يحمل مشاعر لها صلابة الصحراء وشموخ الجبل واتساع البحر. أغاني الصيادين، أهازيج الملاحين، ما يترنم به الصاعدون إلى أعالي النخيل لجني التمر، ما يردده الفلاحون إذ يمشطون الأرض ويبذرون الحبوب ثم يجنون الحصاد. كل ذلك موروث شعبي يحمل كل منا شيئاً منه مهما بلغنا في الثقافة النخبوية والحداثة. ولاشك أن في ذلك كله ما يبرر الالتفات الجاد. السمة الثانية الرئيسة للموروث الشعبي والتي تجعله جديراً بذلك الالتفات وتكثيفه هو أنه يحمل التنوع والاختلاف وقادر في الوقت نفسه على توحيد المتنوع والمختلف. هو متنوع بتنوع البيئات والتجارب ومختلف باختلاف أساليب التعبير عن ذلك التنوع. لكنه يحمل في داخله سمات كثيرة تشترك فيها الموروثات لاسيما المتقاربة جغرافياً والمتلاحمة تاريخياً. الجزيرة العربية، مثلاً، فسيفساء من الموروثات الشعبية الغنية ببيئاتها وتجاربها وأعماقها التاريخية. لكن الناظر في ما تحت ذلك التنوع سيجد خطوطاً تلتقي في رقصات أو في أغاني أو في إيقاعات. صحيح أنها لا تتوحد، وإلا لزال التنوع، لكنها تحتفظ بصلات تجمع بعض عناصرها أو مكوناتها. العرضة النجدية والعرضة الجنوبية، الإيقاعات في الخليج والإيقاعات في اليمن، فن الصوت المنتشر من جنوب الجزيرة إلى شرقها، الدانات الحجازية والطرب اليماني. وقس على ذلك فنون أخرى صوتية وغير صوتية: الزخرفة والصناعات اليدوية وغيرها. بل إن للموروثات الشعبية بعدها الإنساني العام، تشابهات التجارب وتقارب التعبير عنها من الصين إلى أمريكا الجنوبية ملموس ومدروس لدى علماء الأنثروبولوجيا والإثنولوجيا والفولكلوريين. خذ مثلاً شخصية السندريللا. من الصعب العثور على ثقافة لا تختزن حكايات تعبر عن شخصية تشبه شخصة السندريللا: الإنسان الفقير الذي يتحقق حلمه بالثراء عبر معجزة يرويها الكبار للصغار. أو خذ أغاني الحصاد أو أغاني العشق أو الابتهال لهطول المطر. قبعات الفلاحات في عسير قديماً وقبعات النساء في فيتنام، وغير ذلك كثير. السمة الثالثة للموروث الشعبي هو أنه يتضمن تاريخاً للمجتمعات يختلف جذرياً عن التاريخ الرسمي، ليس لأنه بعيد عن الرقابة سياسية كانت أم دينية أخلاقية فحسب وإنما لأنه يعنى بتفاصيل يغيبها التاريخ الرسمي عادة إما عمداً أو جهلاً. فمن الحكايات والمرويات الشفاهية نعرف جوانب من حياة الإنسان تستنكف الثقافة العالمة عن ذكره، ولعل الجنس من أبرز المكبوتات التي يفتحها ويحفل بها الموروث الشعبي وتتجنبها الثقافة الرسمية في كثير من الأحيان. في الموروث الشعبي يتوارى كثير من التابوهات المعروفة وتختلط القيم المتعارف عليها. ولعل ما حفظته ألف ليلة وليلة من حكايات وهي في جوهرها حكايات شفاهية وشعبية خير مثال على ما أشير إليه. أخيراً، لا شك أن هناك سمات ومبررات أخرى كثيرة تجعل الموروث الشعبي جديراً بالاهتمام الجاد، ولكن الهدف هنا هو التذكير ببعض تلك. ومن المهم في الختام القول بأن الدعوة إلى الاهتمام الجاد بالموروث أو الموروثات الشعبية لا تعني منحه أهمية مبالغاً بها أو النظر إليه على أنه هو الموروث الحقيقي لشعب أو مجتمع أو بلد ما. ففي الموروث الشعبي سلبيات كثيرة لعل أبرزها أنه يعج بالخزعبلات والمعتقدات الخاطئة، وأنه أخلاط من المعارف غير الموثقة والحكم المضللة، إلى جانب ما فيه من جوانب جميلة ومهمة وبالغة الدلالة. وعلى هذا الأساس يكون الاهتمام به على مستوى علمي وجاد اهتمام بمكون أساس من مكونات الثقافة يؤدي إلى مزيد من الوعي بما يتضمنه ذلك الموروث استمتاعاً به وإفادة منه لكن دون إعطائه أهمية فوق ما يستحق تجعله هو الموروث الوحيد أو الأهم.

مشاركة :