شهدت القاهرة أخيراً فعاليات مؤتمر «الاستشراق الروسي والثقافة العربية»، بمشاركة 28 باحثاً، نظمته «المؤسسة المصرية - الروسية للثقافة والعلوم» و «وكالة أنباء روسيا» بالتعاون مع «دار الكتب المصرية». وافتتح وزير الثقافة المصري حلمي النمنم المؤتمر بكلمة أكد فيها عمق العلاقات العربية الروسية منذ أيام علي بك الكبير الذي حاول الاستقلال عن الدولة العثمانية ودعمته روسيا في هذا المنحى، مروراً بالحقبة الناصرية ومساهمة الروس في بناء السد العالي الذي يعد أضخم مشروع تنموي مصري في القرن العشرين. وأشار إلى أن موضوع الاستشراق يعد حقلاً خصباً يستهوي الباحثين بمختلف توجهاتهم رغم مرور قرون عدة على ظهوره. أما رئيس المؤسسة المصرية الروسية للثقافة والعلوم رئيس تحرير وكالة أنباء روسيا حسين الشافعي، فأشار إلى أن أهم ما يميز الاستشراق الروسي مقارنة بالاستشراق الغربي هو الموضوعية وعمق التناول وغياب النزعة الاستعمارية. كما يؤمن الاستشراق الروسي، وفق الشافعي، بأن العلم ظاهرة إنسانية ونشاط إنساني، ينمو ويتطور عبر تفاعله مع البنيات الحضارية والاجتماعية والثقافية بأبعادها المختلفة عكس الاستشراق الغربي الذي يستغل العلم من أجل تأكيد الاستعمار والسيطرة على الآخرين، والمركزية الغربية، وقهر ثقافات الشعوب الأخرى وتدمير البيئة واستنفاد مواردها. ورأت المستشرقة الروسية يافعة يوسفنا، الأستاذة في أكاديمية العلوم الروسية في جامعة بطرسبرغ، أن تواصل العرب مع السكان القاطنين على الأراضي الروسية يرجع إلى مرحلة مبكرة من القرون الوسطى، حيث حملوا الإسلام إلى الأراضي الروسية، بخاصة عبر داغستان، حتى أنه في القرن السابع كان يطلق على هذه المناطق ثغور الخلافة. وشكلت تلك المناطق واحدة من الامتدادات الأولى لأطراف الخلافة الأموية الدمشقية الكبرى، وبعد فترة متأخرة تركز الإسلام في بلاد الفولغا والتي بزغ فيها الأمير فلاديمير الذي دشن علاقات ديبلوماسية مع العرب. كما قام الحجاج الروس الأرثوذكس بزيارة الأماكن المقدسة في فلسطين وأقام التجار الروس علاقات مع أقرانهم العرب. وقام في القرن العاشر الرحالة العربي أحمد بن فضلان بزيارة بلاد الروس وكتب انطباعاته التي لا تزال تثير الدهشة والإعجاب والتقدير حتى اليوم. وفي نهاية تسعينات القرن الماضي، عثر علماء الآثار في وسط موسكو، في المنطقة المصنفة ضمن المرحلة القروسطية التي شهدت فترة حكم فلاديمير، على نقود عربية (دراهم). ولاحظ المستشرق ديمتري ميكولسكي، أن العلاقة بين الكنيستين الروسية والأنطاكية بقيت وطيدة على مر العصور وقامت على التعاون المتبادل، وكان لبطريك أنطاكية وبطريرك الإسكندرية في القرن السابع عشر الدور البارز في إصلاح الأمور بين السلطتين الدينية والزمنية في روسيا. وكانت البعثات من المشرق العربي إلى روسيا سنوية في القرن الثامن عشر، ما ساهم في توثيق صلة الوجدان الروسي بالمسيحية الشرقية. وعلى رغم وصول الأسطول الروسي إلى شواطئ سورية في مطلع حزيران (يوينو) 1772، لم تكن لروسيا مطامع توسعية، لأنها لم تكن ترى في المتوسط الشرقي مجالاً حيوياً لها. ولعل غياب مثل هذه السياسة هو الذي يفسر تأخر وصول الإرساليات الدينية والتعليمية إلى المنطقة حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر. في حين كانت الإرساليات الإيطالية والفرنسية بدأت في الانتشار منذ القرن الثامن عشر، وقد أنشئت المدارس الروسية منذ العام 1885 وكانت تولي أهمية خاصة لتعليم اللغة العربية. وتأسست هذه المدارس بفضل مبادرة من الجمعية الإمبراطورية الفلسطينية الروسية في بطرسبرغ والتي كان القيصر نيقولا الثاني رئيساً فخرياً لها وكان ضمن أهدافها القيام بأبحاث عن الشرق وإعداد تقارير عن أوضاع الأرثوذكس فيه. كما قامت الجمعية ببناء المستشفيات وساهمت في بناء الفنادق التي كانت تستقبل آلاف الحجاج الروس في الأراضي المقدسة. وتحدث المستشرق غينادي غارياتشكين، أستاذ تاريخ البلدان العربية الحديث والمعاصر في معهد بلدان آسيا وأفريقيا في جامعة موسكو، عن نشاط حركة الاستشراق في الربع الأخير من القرن التاسع عشر وفي مطلع القرن العشرين، مشيراً إلى ترجمة الكثير من الكتب العربية إلى الروسية، مثل «ألف ليلة وليلة» تحت إشراف المستعرب إغناطيوس كراتشكوفسكي شيخ المستعربين الروس، وكتاب «كليلة ودمنة»، وكتاب «الأيام» لطه حسين. ومع قيام النظام الشيوعي عقب انتصار الثورة البلشفية وخلال الحقبة السوفياتية، قامت سياسة روسيا مع الشرق العربي على الصداقة والتعاون والاحترام المتبادل، ذلك أن روسيا البلشفية أدركت الحقيقة التاريخية التي تقول إنه من الصعب بالنسبة إلى روسيا الانتصار على الغرب الأوروبي من دون توثيق العلاقات مع الشرق. من جهتها انفتحت الأنظمة والشعوب العربية على الثقافة والفكر الروسيين واستقطب الحزب الشيوعي عدداً من المفكرين والمثقفين العرب وأوفدت البعثات العلمية إلى روسيا التي تخرجت في جامعاتها نخبة من الخبراء في المجالات كافة. وتناول أستاذ اللغة الروسية في جامعة عين شمس محمد نصر الدين الجبالي، دور الشيخ محمد عياد الطنطاوي (1813 – 1847) في نشر اللغة العربية في روسيا، حيث عمل أستاذاً للغة العربية في جامعة بطرسبرغ تحقيقاً لرغبة القيصر آنذاك. كما نوه بالدور البارز لكراتشكوفسكي (1883– 1951) عاشق الثقافة العربية والذي قدم ترجمة معتمدة للقرآن الكريم إلى الروسية. ولفت إلى أن الأدب الكلاسيكي الروسي في القرنين التاسع عشر والعشرين يعتبر ظاهرة فريدة من نوعها في الثقافة العالمية؛ حيث لا يختلف اثـنـان حـول أهمية كل من دستويفسكي وتولستوي وبوشكين.لهذا السبب يترجم الأدب الروسي ويقرأ بكل لغات العالم؛ لأنه يتمتع بتاريخ عريق واتجاهات متعددة ومدارس متنوعة. وأوضح أن السمة الرئيسة للأدب الروسي الكلاسيكي تكمن في سعيه الدائم لأن يصبح «مدرسة الحياة» بالنسبة إلى القارئ. وتعتبر دينا محمد عبده؛ مدرسة الأدب الروسي في جامعة عين شمس، عام 1817 بداية مرحلة مفصلية في تاريخ الاحتكاك بين الثقافتين العربية والروسية، حيث تم تدشين المتحف الآسيوي في مدينة بطرسبرغ على يد أحد كبار المستشرقين، خ .د . فرين، والذي يضم قائمة كبيرة من المخطوطات العربية. ويتبع هذا المتحف أكاديمية العلوم السوفياتية (فرع ليننغراد)، وفي ما بعد تأسست كلية اللغات الشرقية في جامعة بطرسبرغ والتي تضم قسماً للغة العربية وآدابها. ويعد ف. ر. روزن أبرز علماء الاستشراق الروسي وهو معلم جيل من المستعربين الروس، وتولى منصب العمادة في هذه الكلية التي تخرج فيها المستعرب الشهير جرجاس الذي ألَّف قاموساً شهيراً، وكتاب «مختارات»، الذي يمثل مرجعاً مهماً لأجيال عدة من المستعربين الروس.
مشاركة :