تاريخ المغاربة في مصر... كيانات اقتصادية كبيرة ضرورة إحياء الأخوة المصرية المغربية.

  • 8/6/2021
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

إن تاريخ الأخوة المغربية المصرية تاريخ عريق بالامجاد ومحطات كثيرة مرّ بها المغاربة منذ قدومهم إلى مصر حتى ترسيخ وجودهم بين أهلها، وربما لم يكن يدر بخلد بعضهم أنهم سيكوّنون كيانات اقتصادية كبيرة، وأنهم سيتولون أعلى المناصب السياسية والعسكرية وسيكونون طرفاً فاعلاً في عملية اتخاذ القرار ببلادهم الجديدة مصر. في البدء كانت الإسكندرية أسباب متبانية دفعت المغاربة للهجرة إلى مصر، أهمها وقوعها على طريق الحج. يشرح أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة دمياط الدكتور أحمد المُلا لرصيف22 أن الحجاج المغاربة كانوا يمرّون بمصر، وبعضهم كان يتخلف عن قوافلهم سواء في رحلات الذهاب أو العودة للاستقرار فيها بسبب انتعاش الحركة الاقتصادية. كان المغاربة مولعين بالتجارة. يذكر الدكتور عبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم في كتابه "المغاربة في مصر في العصر العثماني" أن نشاطهم امتد لكثير من مناطق البحر المتوسط، فاستوردوا البضائع من الهند والشرق الأقصى وموانئ شبه الجزيرة العربية والموانئ العثمانية، وصدّروها إلى أوروبا. وبمرور الوقت، "اتخذ التجار المغاربة من الإسكندرية محطة أساسية لهم، فأنشأوا أو استأجروا الوكالات والمخازن فيها لتخزين السلع التي يجلبونها، وارتبطت حياة الكثير منهم بالمدينة، وبدأوا يكوّنون تنظيماتهم فيها، ويلعبون دورهم في بنيتها الحضرية والإدارية والاقتصادية" سقوط الأندلس وانهيار دولة الموحدين. كان سقوط دولة الأندلس عام 1492، واضطهاد المسلمين فيها بعد ذلك، دافعاً لهجرة كثير من الأندلسيين إلى المغرب ثم مصر. ويذكر المُلا أن إسبانيا تعقبت المسلمين الذين هاجروا إلى الموانئ المغربية وكانوا يشنّون من هناك غارات مستمرة على سواحلها ويحاولون إثارة بقايا المسلمين في الأندلس، وفضّل هؤلاء الفارين الهجرة إلى مصر لأنها كانت حينذاك أكثر أمناً واستقراراً من منطقة المغرب العربي. ومثّل التفكك السياسي الذي ساد منطقة المغرب، بعد سقوط دولة الموحدين، سبباً قوياً للهجرة. يشرح عبد الرحيم في كتابه أنه "أصبح هناك ثلاث دول مسيطرة هي الحفصية في تونس، وبنو زيان في الجزائر، وبنو مرين في مراكش". وكان النزاع بين هذه الوحدات السياسية مستمراً، وكذلك تنازعت طرابلس والحفصيون، بل أن النزاع كان قائماً في داخل الدولة الواحدة، كما كان يحدث في المناطق الشرقية من الجزائر. وأدت تلك الظروف إلى تحوّل المغرب العربي إلى مسرح لفوضى القبائل الغازية والمحلية على السواء، وانتشر الخراب في مدنه، ما أدى إلى تدهور التجارة والصناعة والحرف. وبحسب عبد الرحيم، "وجد المغاربة ضالتهم في الاتجاه نحو مصر التي فتحت لهم أسواق مدنها وريفها لممارسة النشاطات الاقتصادية المختلفة، ولم يجدوا أيّ قيد سواء من أهل مصر أو من الهيئات الحاكمة". المغاربة في مصر جذبتهم الإسكندرية منذ قرون ولعبوا أدواراً اقتصادية وعسكرية مهمة في التاريخ المصري رحلة مغاربة مصر من التجارة إلى تقلد مناصب حساسة في ظل العثمانيين إلى نهاية نفوذهم مع محمد علي باشا كيانات اقتصادية استغل المغاربة انتعاش الحركة الاقتصادية وكوّنت عائلاتهم كيانات اقتصادية ضخمة. ذكر أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر ومؤلف كتاب "العائلة والثروة. البيوت التجارية المغربية في مصر العثمانية" حسام عبد المعطي لرصيف22 أنهم تاجروا في البن والذهب والقماش والزيوت وسيطروا على أكبر أسواق القاهرة مثل الغورية. ومن طرابلس كان الظهور الأبرز لعائلات تربانة وغانم والناضوري، ومن تونس نما نفوذ عائلات أمغار وجلمام وجميع وغراب، ومن الجزائر كانت عائلات القسنطيني وابن منديل، ومن مراكش ثبّتت عائلات الشرايبي وجسوس والعشوبي وجلون وابن مشيش والبناني أقدامها في مصر، ومن الأندلس جاءت عائلات ابن مسمح والصباغ والبرجي وديلون. ثنائية المال والسياسة لم يعنِ صعود المغاربة إلى قمة الهرم الاقتصادي أنهم كانوا بعيدين عن دهاليز السياسة، خاصة أن الفترة بين القرنين السادس عشر والثامن عشر شهدت نزاعاً محتدماً من أجل الاستيلاء على السلطة وعلى المنافع التي تتيحها. كان التجار المغاربة طرفاً محايداً يمتلك الثروة، فسعى إليه كل طرف متصارع لاكتسابه إلى جانبه. وشرح عبد المعطي أن تأييد التجار لأي فريق كان يقلب توازن القوى لصالحه، وهذا ما جعل الأطراف المتصارعة تأخذ في اعتبارها جيداً الوزن السياسي والاقتصادي والاجتماعي للتجار. ففي سنة 1725، عندما أراد الأمير الحاكم في مصر ذو الفقار بك إرسال حملة عسكرية كبيرة ضد خصمه جركس محمد بك، لجأ إلى الخواجا قاسم الشرايبي من أجل تمويل الحملة. علاقة خاصة بالدولة العثمانية منذ بداية العصر العثماني في مصر، بدت الجماعة المغربية أكثر التصاقاً بالهياكل العسكرية والسياسية للدولة العثمانية. ويرجع عبد المعطي ذلك في كتابه إلى سببين رئيسيين، الأول هو "العطف الذي أبدته الدولة العثمانية تجاه المسلمين في إسبانيا منذ سقوط غرناطة في سنة 1492، حيث نظرت إليهم بعين المضطهَدين الذين يجب استقبالهم بترحاب في جميع ولاياتها". أما السبب الثاني فهو "الحاجة الملحة من جانب الدولة العثمانية إلى المغاربة للعمل في الأسطول العثماني خاصة بعد تحطمه في معركة ليبناتوا البحرية عام 1571 (كانت ضد تحالف أوروبي وانتهت بهزيمة العثمانيين)، حيث كانت الدولة راغبة في إعادة بناء وتجديد الأسطول، ووجدت فيهم سندها القوي". وصدرت الأوامر بتجنيد المغاربة، وحددتهم الأوامر بالقادرين على العمل في البحرية، أي أقوياء الجسم والبنية وغير ذلك. وأتاح الدخول المبكر للمغاربة في الفرق العسكرية الترقي في المناصب، فوصل عدد منهم إلى منصب "كتخدا مستحفظان" (رئيس فرقة عسكرية) و"كتخدا عزبان" (رئيس فرقة عسكرية كانت تحارب أمام المدافع العثمانية وبعد فتح مصر أسندت إليها مهمة حماية القلاع وضواحي القاهرة)، وأصبح منهم قباطنة في رشيد والسويس. وفي الإسكندرية، ظل منصب "سردار مستحفظان" (قائد فرقة عسكرية) بمنطقة الثغر حكراً على عائلات تنتمي لأصول مغربية لفترات طويلة، مثل أبي زيان وغانم وتربانة والناضوري والغرياني وجميعي، وظل منصب ريس الترسخانة (مشغل الميناء البحري ومستودع الأسلحة والذخائر) يتولاه أمراء من المغاربة. الاستخبارات والبريد والحسبة أدرك المغاربة ضرورة دعم علاقتهم بالسلطة السياسية وتكوين قاسم من التحالف المشترك بينهما لحماية مصالحهم. وقادهم ذلك إلى السيطرة على جهازين رقابيين مهمين في الدولة العثمانية هما البريد والحسبة. كان سعاة البريد (ساعي باشا) همزة الوصل الرئيسية بين أجهزة الدولة العثمانية. وبحسب عبد المعطي، فإن "عمل المغاربة في هذا المنصب جاء نتيجة لسياسة عامة اتبعتها الدولة العثمانية وهي استخدام العناصر المورسكية المضطهدة والتي كانت أكثر وعياً ونقمة وحنقاً على الأوروبيين في جهازي العسس (الاستخبارات) والبريد باعتبارهما من أهم أجهزة الدولة لإحكام قبضتها على الولايات والأقاليم وفي صراعها الضاري مع أوروبا". وفي الإسكندرية، سيطرت عائلات المراكشي والقصري والزواوي على هذا المنصب لفترات طويلة. ممثل السلطة في الأسواق وينطبق الأمر ذاته على منصب المحتسب بوصفه ممثلاً للسلطة السياسية في الأسواق. ورأى المغاربة في وجود المنصب بيدهم في القاهرة أو الإسكندرية هدفاً ملحاً لهم، إذ سمح لهم بحرية أكبر في المناورة من أجل رعاية مصالحهم. وذكر عبد المعطي أن "الخواجا عبد العزيز المسلاتي الأندلسي تولى (منصب) ناظر الحسبة الشريفة خلال منتصف القرن السادس عشر، وشغل الأمير محمد المغربي الذي كان زعيم مصر (حكمدار أمن العاصمة) ناظر الحسبة في سنة 1736". وفي الإسكندرية أيضاً ظل محتسب المدينة لفترات طويلة ينتمي إلى عائلات ذات أصول مغربية. الانضمام للفرق العسكرية ولمزيد من الحماية لتجارتهم، انخرط المغاربة منذ الربع الأخير من القرن السادس عشر في صفوف الأوجاقات (الفرق) العسكرية خاصة أوجاق مستحفظان بوصفه أهم وأقوى الفرق العسكرية في مصر والسلطنة العثمانية. وارتقى عدد من أبناء المغاربة في درجات السلم العسكري، ووصل عدد منهم إلى درجة جوريجي مستحفظان، بل أصبح أبناء وأحفاد الخواجا عثمان بن شحاتة القسنطيني بكوات وأمراء ألوية. ووفقاً لعبد المعطي "لم يكتفِ التجار بكونهم أعضاء في هذه الفرق بل أشركوا معتقيهم في الأوجاق وساندوهم حتى الوصول إلى البكوية من أجل حماية مصالحهم وأعمالهم"، وسارت على ذلك النهج عائلتا الشرايبي وعثمان حسون. إقراض المماليك. منذ الربع الثاني من القرن الثامن عشر، أصبحت البيوت المملوكية هي التي تسيطر منفردة على مقاليد الأمور في مصر، وعانى التجار المغاربة مثل المصريين من الأعمال التعسفية التي كانت تُمارس. لم يكن أمامهم إلا خياران لتأمين تجارتهم وحماية أموالهم. الأول هو مشاركة الراغبين من المماليك في التجارة، والثاني تقديم القروض الكبيرة إليهم ليضمنوا نجاح تجارتهم. وضرب عبد المعطي مثالاً بالأمير ذو الفقار بك المسيطر على مقاليد الأمور في مصر من 1727 إلى 1730 والذي كان مديناً لقاسم الشرايبي بـ3.5 مليون بارة (عملة عثمانية)، والأمير إسماعيل آغا كتخدا جاويشان الذي كان مديناً للخواجا عبدالسلام بن عبد الرحمن الهنداز بـ85191 بارة، بينما كان الأمير أحمد جريجي كومليان مديناً في سنة 1735 للخواجا عثمان حسون بمبلغ 81420 بارة. وخلال ثلاثينيات القرن الثامن عشر أصبح على كل تاجر كبير يرغب في حماية تجارته وأمواله، اتخاذ أمير مملوكي سنداً شرعياً لحمايته. فيالق عسكرية في ستينيات القرن الثامن عشر، أقبل الأمراء المماليك بشكل واسع على تشكيل فيالق عسكرية داخل بيوتهم من المغاربة بسبب إجادتهم استخدام البنادق، واستخدموها (أي الفيالق) بعضهم ضد بعض. حرص الأمراء على استخدام المغاربة كجنود مشاة ولم يسمحوا لهم بأن يكونوا فرساناً. كان عبد السلام بن محمد جلون، آغا العسكر المغاربة، بخدمة الأمير علي بك الكبير القازدغلي في سنة 1761، وكان عبد المجيد بن أبي زيد المغربي في خدمة الأمير ذي الفقار كاشف المنوفية في سنة 1795 وأسهم الوجود العسكري المغربي في خدمة أهداف وسياسة التجار المغاربة، إذ أصبحوا على دراية كافية بالتطورات السياسية الدقيقة في البلاد. بداية الخفوت مثّل تولي محمد علي باشا لمقاليد السلطة في مصر بداية النهاية لنفوذ المغاربة في مصر، إذ انعكست سياساته في تحديث الدولة المصرية سلباً على الأعيان منهم. وشرح الدكتور يونان لبيب رزق ومحمد مزين في كتابهما "تاريخ العلاقات المغربية المصرية" أن ذلك تمثل ذلك في أمرين: الأول هو إلغاء نظام الالتزام حيث صار الفلاحون يدفعون الضرائب إلى الدولة مباشرة، ومن ثم قضي على تبعية الفلاحين للملتزمين (كانوا يسددون الضرائب للدولة ويجمعونها مضاعفة من الفلاحين)، وبالتالي تضررت الفئات التي كانت تستفيد من هذا النظام، ومنهم التجار المغاربة. وتمثلت الضربة الثانية الأكثر إيلاماً التي تلقاها التجار المغاربة، مثل نظرائهم المصريين، في سنّ محمد علي سياسته الاحتكارية للأنشطة الاقتصادية، حسبما ذكر رزق ومزين. عبر هذه السياسة "أصبح مجموع الإنتاج الصناعي والحرفي والزراعي تحت سيطرة الحكومة، وفي نفس الوقت اضطلعت الدولة بدور المورد الوحيد للبضائع المصرية إلى الأسواق الداخلية والمصدر الوحيد لها إلى الخارج، وتحوّل تجار التجزئة في المدن إلى وسطاء للحكومة لبيع بضائعها". أما تجار الجملة فقد "تقلص دورهم وأصاب أعمالهم كثير من أسباب الكساد، وكان من الطبيعي أن يصيب كبار التجار المغاربة ما أصاب غيرهم نتيجة لتطبيق هذا النظام". الصعيد العسكري وبحسب رزق ومزين "شكل المغاربة عنصراً مهماً من عناصر الجيش الذي أرسله محمد علي لضرب الحركة الوهابية في شبه الجزيرة العربية في عام 1814 بناء على طلب الدولة العثمانية". لكن لم يشفع ذلك لهم في استمرار الميزات التي كانوا يحصلون عليها قبل تولي محمد علي حكم مصر. فقبل مرور عقد من حكمه، كان الباشا قد تخلص تماماً من نظام الطوائف العسكرية التي كانت سبباً رئيساً للاضطرابات التي لحقت بمصر، وكان من الطبيعي أن تختفي طائفة العسكر المغاربة ضمن القوى التي اختفت خاصة بعد تمصير الجيش، وإن كان بعض المغاربة قد أدمجوا فيه. فالمغاربة لهم حضور تاريخي بجمهورية مصر العربية وعلينا فتج جسر للأخوة المغربية المصرية عبر الثقافة والفكر والفن الراقي.

مشاركة :