تشمل الولايات المتحدة أكثر مصنّعي الأجهزة تطوراً وأبرز شركات الرقائق التي تستعين بمصادر خارجية، لكن كشف نقص الرقائق العالمي في زمن كورونا نقاط ضعف معينة في قدرات تصنيع الرقائق الأميركية في المسابك، حيث يعترف التقييم الذي أجرته إدارة بايدن حول سلاسل إمدادات أشباه الموصلات العالمية بأن الولايات المتحدة لا تزال رائدة في مجال تصاميم «المنظومة على رقاقة» (system-on-chip)، لكنها تفتقر إلى المسابك لتعزيز إنتاج الرقائق وتخفيض احتمال حصول أي نقص مستقبلي في هذا القطاع. تريد الولايات المتحدة أن تتولى عملية إنتاج الرقائق بأكملها عبر تجاوز القيود المطروحة على مستوى الإعانات والبنية التحتية، حتى أنها تجمع التمويل اللازم عبر «قانون الرقائق من أجل أميركا» ومن خلال الضغط على الجهات الحليفة التي تستطيع تصنيع الرقائق ودفعها إلى المشاركة في هذه العملية، التزمت «شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات» بمساعدة الولايات المتحدة على معالجة النقص في الرقائق بعدما ضغط عليها البيت الأبيض بقوة كي تستثمر في الولايات المتحدة، ثم التزمت شركة «سامسونغ» باستثمار 17 مليار دولار في المسابك لإنتاج أشباه الموصلات في الولايات المتحدة غداة ضغوط مشابهة. تُعتبر كوريا الجنوبية وتايوان من كبار اللاعبين في سوق الرقائق العالمية، لكن نسبة إنتاجهما لأشباه الموصلات والرقائق المتقدمة تشكّل جزءاً بسيطاً من إنتاج القطاع ككل، ولا تزال الولايات المتحدة رائدة في مجال تصميم الرقائق المتقدمة في القطاعات التي تكسب أكبر عائدات السوق، أي شركات تصنيع الأجهزة المتكاملة، والشركات التي تستعين بمصادر خارجية وتنتج رقائق الأنظمة كمنتج نهائي، وللحفاظ على دور قيادي عالمي في مجال أشباه الموصلات، لا بد من تقييم عالم إنتاج الرقائق بالكامل، بدءاً من الأبحاث مروراً بالتصميم وصولاً إلى التصنيع، بالإضافة إلى تقييم قدرات الإنتاج بحسب نوع الرقائق. في قطاع أشباه الموصلات الذي تصل قيمته إلى 1.5 تريليون دولار، تطغى الولايات المتحدة على تصنيع الأجهزة المتكاملة (15%)، والمنتجات المُصنّعة بناءً على مصادر خارجية (25%)، والمعالِجات الدقيقة (17%)، وفي غضون ذلك، تقود كوريا الجنوبية وتايوان قطاعات المسابك (13%) ورقائق الذاكرة (7%) ولو بدرجة أقل، وتتمسك الولايات المتحدة بدورها القيادي في مجال الرقائق الدقيقة عن طريق الابتكار، وهي تسعى راهناً إلى التفوق في أسواق الأنظمة ورقائق الذاكرة أيضاً، كما تريد الولايات المتحدة أن تزيد قدراتها في مجال الإنتاج الشامل عبر شراء مسابك لإنشاء سلاسل إمدادات كاملة محلياً رغم تردد السياسة الصناعية التي تقودها الحكومة. تثبت الخلافات القائمة بين الولايات المتحدة والصين وحرب الرقائق بين اليابان وكوريا الجنوبية أن الهدف الأميركي النهائي يتعلق بجمع الحلفاء في شرق آسيا في إطار سلسلة إمدادات عالمية تقودها الولايات المتحدة، وقد أدت قيود التصدير التي فرضتها اليابان ضد كوريا الجنوبية على مستوى ثلاث مواد أساسية لإنتاج أشباه الموصلات (البوليميدات المفلورة، وفلوريد الهيدروجين، والألواح المقاوِمة للضوء) منذ يوليو 2019، تزامناً مع حظر شركة «هواوي»، إلى فتح سوق مواد أشباه الموصلات الكورية الجنوبية على الشركات الأميركية، حيث دفعت تلك القيود كوريا الجنوبية إلى بناء منشآت لإنتاج البوليميدات المفلورة محلياً وتنويع مصادر استيراد فلوريد الهيدروجين وتخفيف الاتكال على اليابان كي تقتصر نسبته على 10%. نجحت وزارة التجارة والصناعة والطاقة في كوريا الجنوبية في تأمين 28 مليون دولار لإنشاء مصنع جديد في «تشونان»، بدعمٍ من شركة الاستثمار الأميركية «دوبون»، لإنتاج العنصر المقاوم للضوء الذي تجد كوريا الجنوبية صعوبة في نقله إلى إنتاجها المحلي. عمد بعض المصدرين اليابانيين لتلك العناصر الثلاثة إلى تخفيض الإنتاج الذي تستفيد منه كوريا الجنوبية. تبيّن أن قيود التصدير اليابانية تطرح مخاطر على منتجي الرقائق في كوريا الجنوبية، مما أدى إلى إطلاق جهود مكثفة لتحقيق الاكتفاء الذاتي أو إيجاد مصادر بديلة، وفي ظل شلل هيئة الاستئناف في منظمة التجارة العالمية، تتابع كوريا الجنوبية محاولة الانقلاب على قرارات اليابان بموجب «الاتفاق العام بشأن التعريفات الجمركية والتجارة» من عام 1994. من المتوقع أن يشهد الاقتصاد بعد زمن كورونا توسعاً هائلاً في سوق أشباه الموصلات، وأصبح تعزيز إنتاج الرقائق محلياً هدفاً أساسياً في الولايات المتحدة، نظراً إلى أهمية أشباه الموصلات المتطورة لتشغيل خوارزميات الذكاء الاصطناعي في الأنظمة الدفاعية. تحاول الولايات المتحدة إذاً فرض سيطرتها في زمنٍ يبدو فيه التعافي من الوباء غير مرئي وتتسارع فيه مظاهر الكهربة والرقمنة، حيث ستصبح أشباه الموصلات المصدر الأساسي لهذه الموجة المستجدة، في حين تتجه الولايات المتحدة إلى وقف تدفق تكنولوجيا الرقائق نحو الصين، وبغض النظر عن الخلاف القائم بين كوريا الجنوبية واليابان، ستبقى السياسة الأميركية رائدة في مجال الرقائق الإلكترونية.
مشاركة :