أثارت سلسلة الهجمات الأخيرة على الشحن التجاري في الخليج العربي أو بالقرب منه، والتي ارتبطت بقوة بإيران أو وكلائها الإقليميين، تساؤلات بين المحللين حول ماهية الردع الموجودة لدى الولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأوسط، لمواجهة مثل هذه الأعمال الخبيثة وكبح قدرتها التدميرية للأرواح والمعدات. ولمناقشة هذا الأمر، صدر تقرير عن «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، بعنوان «هل تردع حاملات الطائرات الأمريكية إيران؟»، أعده كل من «مايكل آيزنشتات» و«هنري ميهم»، من برنامج الدراسات العسكرية والأمنية بالمعهد، بهدف نقد الردع الأمريكي في الخليج العربي، في ضوء أن اعتماد واشنطن على حاملات الطائرات كآلية ردع لا يعمل حاليًا على النحو المنشود. ومنذ البداية، أوضح «آيزنشتات» و«ميهم» أن «هناك طرقا أكثر فاعلية، وأقل كلفة، وأكثر استدامة لردع طهران، وصياغة سلوكها من خلال عمليات النشر المتتالية لمجموعات حاملات الطائرات الهجومية في الخليج»، وأن «الخيار المُعتمد» للولايات المتحدة في فترات التوتر مع طهران على مدى سنوات عديدة هو إرسال إحدى حاملات طائراتها إلى الخليج، «سواء لردع النظام، أو لتحديد شكل سلوكه، أو التعامل مع التداعيات إذا أخفق الردع». ومع ذلك، «لا يوجد دليل على أن مثل هذه الإجراءات قد مثلت عامل ردع لطهران ووكلائها بشكل فعال». وبدلاً من ذلك، «أدت ممارسة عمليات النشر المتكررة والمطوّلة والمتعاقبة إلى الإفراط في استخدام السفن وطواقمها، وألحقت الضرر بالجداول الزمنية الخاصة بالنشر والصيانة، ومنعت البحرية الأمريكية من الوفاء بالتزاماتها المتزايدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ». واستمرارًا في عرض رؤيتهما، أوضحا أنه «منذ حرب الخليج عام 1991، احتفظت أمريكا بحاملة طائرات واحدة على الأقل من بين الحاملات العشر التي تعمل في المنطقة، ولم يتم استخدامها مرة واحدة خلال هذه الفترة في الرد على هجمات إيران، والتي كان من بينها تفجير أبراج الخبر في السعودية عام 1996، والعديد من الهجمات التي شنتها المليشيات الموالية لها في العراق منذ عام 2003، وعشرات الهجمات الصاروخية على السفارة الأمريكية والعسكريين الأمريكيين في العراق منذ عام 2019». وبالتالي، تساءلا عما إذا كان وجود هذه الحاملات في الخليج العربي أو حوله هو حقًا مصدر قلق للتفكير الاستراتيجي لطهران، أو ما إذا كانت تتجاهلها في قراراتها بشنّ هجمات جوية على أهداف برية أو بحرية. علاوة على ذلك، لاحظا أن «بعض الأنشطة الإيرانية الأكثر جرأة في السنوات الأخيرة حدثت عندما كان لدى واشنطن حاملة أو اثنتان في منطقة الخليج»، بما في ذلك هجمات الطائرات بدون طيار الإيرانية، وصواريخ كروز على منشآت النفط السعودية في «بقيق» و«خريص»، وهجمات المليشيات الموالية لطهران على القوات الأمريكية في العراق عام 2019، والهجمات الصاروخية على قواعد أمريكية في العراق انتقامًا لمقتل قاسم سليماني، ومحاولة خطف الناشطة الإيرانية الأمريكية «مسيح علي نجاد» على الأراضي الأمريكية عام 2020، فيما تزايدت الهجمات المرتبطة بوكلائها بعد تنصيب «جو بايدن» عام 2021، إذ «شرعوا في نشر الهجمات الصاروخية والطائرات بدون طيار التي هددت الجنود الأمريكيين». ومع وضع ذلك في الاعتبار، فإن الهجوم على ناقلة النفط «إم ستريت» قبالة ساحل عُمان أواخر يوليو 2021 يثير احتمال شن هجمات ضد السفن العسكرية الأمريكية في الخليج العربي عن بُعد من قبل عملاء، إما في إيران وإما مرتبطين بها، بالنظر إلى التحول الواضح إلى استخدامها الطائرات بدون طيار لمهاجمة السفن مع عدم وجود خطر فقدان الأرواح من جانبهم. إضافة إلى ذلك، هناك «حرب الظل» بين إسرائيل وإيران في الشرق الأوسط، مع وجود خطر أن تجد القوات الأمريكية نفسها عالقة عن غير قصد في أتون المواجهة. وفي مثل هذا التصعيد الإضافي، قد تصبح القيود أمام الناقلات الأمريكية في الخليج العربي أكثر وضوحًا. ومع ذلك، لا يعني انتقاد «آيزنشتات» و«ميهم» لوجود حاملات في الخليج أنهما يعارضان وجودها مطلقا، بل يرغبان في رؤيتها تمثل «ردعا بشكل أوضح لإيران في أوقات الأزمات». بدلاً من جعلها «رموزا للردع الأمريكي المحتمل»، أو «كردود فعل على التصرفات المرتبطة بإيران»، مؤكدين أن هناك أمثلة للناقلات التي تم استخدامها للردع في المنطقة بشكل جيد.. وعلى الأخص عام 2015، عندما منعت الحاملات الأمريكية قافلة إيرانية كانت تحاول تسليم أسلحة للمتمردين الحوثيين في اليمن من مواصلة مهمتها. وبشكل عام، حاول الباحثان استكشاف تدابير بديلة للردع الأمريكي في المنطقة على الأقل لاستكمال المنظومة الحالية. وعلى هذا النحو، أشارا إلى أن «واشنطن وجدت سُبلًا أخرى للردع»، وخاصة بعد أن أنشأت قوة أمنية بحرية متعددة الجنسيات في سبتمبر 2019 لضمان حرية الملاحة في الخليج العربي. وتأكيدًا لذلك، استشهدا بحديث «كينيث ماكنزي» قائد القيادة المركزية الأمريكية، الذي «أرجع انخفاض الهجمات على حركة الشحن إلى وجود مواقع مراقبة مرتبطة بقوات الأمن البحري»، والتي يزعم أنها «قللت إلى حد كبير من إمكانية إنكار إيران مسؤولياتها عن الهجمات»، وهو الأمر الذي وصفاه بأنه «الشكل النهائي لردع الهجمات عن طريق الإنكار»؛ لأنه يحرم طهران من القدرة على النأي بنفسها عن تنفيذ هجوم على أي سفينة أمريكية أو حليفة في مياه الخليج». واستمرارًا، أوضحا أن «أكثر ما يبدو أنه مثل ردعا لبعض الأنشطة الإيرانية المزعزعة للاستقرار منذ أوائل عام 2020» هو اغتيال قاسم سليماني، إذ رأى المحللون أنه بعد وفاته «تصرفت طهران بحذر شديد» على المدى القصير على الأقل، على الرغم من أنهم يقبلون أيضًا أنه «بعد عدة أشهر بدأت مرة أخرى في التحرك في حدود الاستجابة الأمريكية»، فضلا عن أن «واشنطن» عندما هددت بإغلاق سفارتها في بغداد في سبتمبر2020، نتيجة استمرار الهجمات الصاروخية من قبل وكلاء إيران؛ تم التقليل بشكل كبير من تلك الضربات». وهكذا، خلصا إلى أن صدمة مقتل سليماني، والتهديد بإغلاق السفارة الأمريكية، فضلاً عن تهديدات «ترامب» المتكررة لإيران، قد «غيرت حسابات المخاطر في طهران»، كما أن مقتل القيادي بمليشيات الحشد الشعبي في العراق، «أبو مهدي المهندس» -في نفس الغارة التي قتلت سليماني- قد «شجع العراقيين على انتقاد النفوذ الإيراني في بلادهم». وأكدت كل هذه الإجراءات أن «الردع ليس سوى العامل الوحيد الذي يجب مراعاته عند تقييم الفعالية لسياسات واشنطن»، وأن «تعطيل عمليات الخصم واستراتيجيته وسياسته قد يكون في بعض الأحيان بنفس الأهمية». وفيما يتعلق بالتوصيات الواردة في تحليلهما لمستقبل الردع الأمريكي ضد إيران ووكلائها في الخليج العربي، أكدا أن «التجربة تظهر أنه ليس حجم أو قدرة القوات المنتشرة في الخطوط الأمامية هما اللذان يردعان»؛ ولكن «مصداقية التهديدات الرادعة». وزادا على ذلك أنه في حين أن واشنطن تستطيع حاليًا «زيادة قواتها في المنطقة متى اقتضت الضرورة»، فإنها «لا يمكنها زيادة المصداقية، والتي يجب صقلها من خلال إظهار العزيمة». من ناحية أخرى، تم تسليط الضوء على أهمية الأدوار الإقليمية والدولية للولايات المتحدة، مشيرين إلى الاهتمام الاستراتيجي الواضح من جانبها بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ لمواجهة الصين، بدلا من التركيز على حماية منطقة الخليج بصفة خاصة. وذكر التقرير أن «صناع السياسة بحاجة إلى التأكد مما إذا كانت القوات الخليجية قد تردع إيران بشكل أكثر نشاطًا من حاملات الطائرات الأمريكية العملاقة، التي تقوم بدوريات لتأمين الملاحة العالمية، ولا سيما أنهم أدركوا أيضًا أن «واشنطن قوة عظمى» لها «التزامات دولية»، وأنها «لا تستطيع الرد على كل تحدّ من قبل الأعداء والخصوم الإقليميين في المنطقة»، «ولا ينبغي لها أن تحاول ذلك». علاوة على ذلك، فإن القرار الأمريكي بالانسحاب من أفغانستان، وتقليص مستوى وحجم الدفاعات الصاروخية والطائرات المقاتلة المتمركزة في الأردن يمكن أن يشجع طهران على تكثيف الضغط على واشنطن ومحاولة توسيع نطاق نفوذها الإقليمي»، وبالتالي، حث الباحثان صانعي السياسة الأمريكيين على التأكيد على وجود المزيد من الضمانات والتدخل في حالات الطوارئ القصوى، عبر الاعتماد على وجود تمركز أصغر، ولكن أكثر نشاطًا للقوات الأمريكية واعتماد استراتيجية المواجهة المعروفة بـ«المنطقة الرمادية»، بين إيران والولايات المتحدة، وهي الأنشطة التي تقوم بها دولة ما وتضر بدولة أخرى، وتعتبر ظاهريا أعمال حرب، لكنها من الناحية القانونية ليست أعمالا حربية. وعليه، يوصي التقرير بضرورة نشر «حاملات طائرات قتالية خفيفة»، يمكن أن «تساعد في عرقلة أي سلوك عدائي إيراني»، و«تشعر الشركاء الإقليميين بالطمأنينة»، وتوفر «القدرة على الاستجابة الطارئة لأي هجوم». وتتعلق التوصية الثانية بحتمية «وجود عسكري أصغر، ولكن أكثر نشاطًا للقوات الأمريكية»، وهو ما سيكون له دور «في تعزيز تدابير الردع غير العسكرية». وفي حالة حدوث تصعيد من قبل طهران «يمكن دائمًا دفع تلك التعزيزات إلى المنطقة لتهدئة أي توترات»، وسيكون من الأفضل «الاعتماد على كل من سياسة الردع، سواء بالعقاب والردود الانتقامية أو عن طريق الإنكار، والتي ستؤدي على الأرجح إلى نتائج أفضل، بدلاً من الاعتماد على سياسة أحدهما أو الآخر». وأخيرًا، يمكن لسياسة «المنطقة الرمادية» -الموصى بها- أن توجه للمسؤولين الإيرانيين العديد من التهم والمساءلة وإخضاعهم لمزيد من أنشطة الردع السرية. ولن يستلزم مثل هذا النهج سوى قوة أمريكية صغيرة متمركزة في الخليج. ومن المرجح أن تكون هذه الاستراتيجية أكثر فعالية واستدامة» من تلك التي تعتمد على وجود مجموعة من حاملات الطائرات القتالية، مشيرين أيضًا إلى ضرورة أن تكون كافة الأعمال العدائية «مراقبة بالرادار»، وهو ما «سيكون له دوره في معرفة المسؤول عنها وكيفية الرد عليها، أو فتح قنوات الحوار الدبلوماسية».. وبالتالي «عدم زعزعة استقرار الشركاء الإقليميين». ومع ذلك، من المهم الاعتراض على النقطة الأخيرة، إذ من غير المرجح أن تنكر واشنطن أو غيرها قيامها أو تنفيذها لأية أعمال انتقامية ضد إيران، بالنظر إلى تغيير القوات الأمريكية لتكتيكاتها واستراتيجيتها الرادعة. وهنا، ستكون هناك مخاطرة بوقوع مزيد من التصعيد أيضًا في المنطقة، وبالتالي، قد نجد هجمات أكثر فتكًا من جانب إيران ضد السفن المرتبطة بالولايات المتحدة وحلفائها، أو تلك التي ترفع أية أعلام لدول محايدة. لكن على الجانب الآخر، لم يتناول التقرير موقف حلفاء واشنطن الخليجيين من عدم الاعتماد على تلك الحاملات لردع إيران، وخاصة أنها تمثل بالنسبة إليهم إشارة مهمة على اعتراف الولايات المتحدة بأهمية تأمين المنطقة وردع أي عدوان إيراني على دول المجلس، كما لا يخفى أن البحرين والسعودية والإمارات أعضاء في فرقة العمل الدولية للأمن البحري(IMSC) ، والتي تهدف إلى توفير الدعم البحري الأمريكي، وحماية حركة الملاحة التجارية في الخليج من كافة الأعمال العدوانية غير المبررة. على العموم، سلط كل من «آيزنشتات» و«ميهم» الضوء على مدى جدوى الدور المعاصر الذي تمارسه حاملات الطائرات الأمريكية كآليات لردع الأعمال العدوانية الإيرانية في المنطقة، مشيرين إلى كل من الإيجابيات والسلبيات الكامنة وراء هذه العملية.. غير أنهما شددا على أن النجاح الحقيقي منوط «بما إذا كانت الإجراءات تردع الأنشطة الإيرانية الهجومية الأكثر زعزعة للاستقرار»، وتجبر الخصم، في المقابل «على استخدام وسائل هجومية أقل تدميرًا». ومع ذلك، لم يقدما أية تصريحات واضحة لاستغلال الوضع، في حال تخفيف تمركز حاملات الطائرات الأمريكية، وبالمثل لم يقدما أي توصيات حول ملامح التغييرات العسكرية المستقبلية على الأرض، وخاصة أن سحب هذه الحاملات سيكون من دون موافقة دول الخليج، والتي تعتبرها جزءًا لا يتجزأ من آلية الردع المناهض لإيران في المنطقة.
مشاركة :