هناك أفلام وثائقية تغني بغرابة قصتها وتصاعد أحداثها غياب الخيال، بل إن الخيال قد يصبح فقيراً تجاه الواقع الذي كثيراً ما يحفل بما يستعصي على مخيلة المؤلفين. ويعد فيلم المخرج الأميركي ماثيو هاينمان "أرض عصابات المخدرات" "Cartel Land"، أحد الأفلام الوثائقية التي تصور واقعاً عجيباً ومثيراً، فهو يتحدث عن الحدود المكسيكية الأميركية حيث تهرب المخدرات من المكسيك إلى الولايات المتحدة، ويتناول بشكل خاص لقاءات مكثفة مع شخصين يحاولان الوقوف أمام هذه العصابات كل لأسبابه الخاصة، أحدهما أميركي والآخر مكسيكي، وبالطبع لأن هذه العصابات لا تعرف إلا لغة العنف، فهما أيضاً يحاولان التعامل معها بنفس اللغة. يبدأ الفيلم بلقاء مع أفراد من هذه العصابات وهم يحضرون "الشبو" أو ما يسمى ب"الكريستال ميث" وهو نوع من المخدرات اشتهر بعد مسلسل "Breaking Bad" الذي يروي قصة مدرس كيمياء يبرع بتحضير هذا المخدر، نرى في الغيمة البيضاء التي يثيرها تحضير هذا المخدر الغمامة القاتلة التي يمكن أن تصبح في رأس من يتناوله. يعترف هؤلاء الأشخاص وقد أخفوا وجوههم فلا تظهر إلا عيونهم، بأنهم يتاجرون بالمخدرات، لكسب العيش ومحاربة الفقر، وأن من علمهم صناع هذا المخدر هو رجل أميركي مع ابنه، وأنهم يعرفون الآثار المدمرة لما يصنعون، ولكنهم يقومون بذلك لأنه لا خيار آخر لهم. بعد هذا المقدمة المثيرة التي توضح أن صانع الفيلم لم يتردد في الذهاب إلى أماكن خطرة لتصوير فيلمه، وهو ما يحسب له ولفيلمه الذي يعتمد أسلوباً أقرب للتشويق، نبدأ الرحلة الأولى مع إحدى الشخصيات الرئيسية فيه ونتعرف على تيم نيلور فولي، والذي يعلن بأنه لا يعلم كيف يُقيّم الآخرين ما يفعله، لكنه يفعل ما يراه هو أنه الصواب، وهو مؤمن تماماً بأخلاقية ما يفعل. فولي ينتمي إلى جمعية أهلية تسمى "Arizona Border Recon" أفرادها هم أميركيون لا ينتمون للجيش أو لأي جهة حكومية ولكنهم يعملون بشكل تطوعي على مراقبة الحدود والتبليغ عن أي أعمال تهريب، وهم بالطبع كما نراهم مدججون بالأسلحة، ومن يشاهدهم يعتقد أنهم من أفراد الجيش، لا فِرقاً متطوعة. يذكر فولي الذي كان في شبابه مدمناً على المخدرات، أنه قرر التطوع في هذه الجمعية بعد أن فقد وظيفته، ولم يستطع العمل بعدها لأنه -على حد قوله- اكتشف أن كثيراً ممن يمارسون الأعمال الوظيفية هم مهاجرون غير شرعيين، ولكنه حين قدم إلى ولاية أريزونا لوقف تهريب المهاجرين، اكتشف أعمال تهريب أخرى غير البشر وهي المخدرات. ينقلنا الفيلم بعدها إلى داخل المكسيك، وإلى ولاية ميشواكان، حيث يتعرض أهالي هذه المنطقة إلى العنف والقتل من قبل عصابات المخدرات الكبيرة ومنها عصابة فرسان الهيكل. نرى بوضوح ما يعانيه الأهالي من خلال تصويرهم أثناء تجهيز جنازة لعائلة من عدة أفراد أحدهم رضيع، ونعلم أن أفراد هذه العائلة قتلوا على يد العصابة انتقاماً من صاحب العمل الذي لم يقبل أن يدفع لها مبلغاً ما. تظهر بعد ذلك الشخصية الرئيسية الأخرى في الفيلم وهو طبيب يدعى خوسيه مانويل ميريليس. يخبرنا ميريليس بأنه قرر أن يدافع عن نفسه بنفسه من عصابة فرسان الهيكل، وبدأ يشكل ميليشيا أهلية للدفاع عن الأهالي وللحد من حوادث الخطف والقتل، نتابع في الفيلم تطور رحلة ميريليس الذي بدا بطلاً أهلياً، يذكر بإحدى شخصيات غابرييل غارسيا ماركيز في "مائة عام من العزلة"، وكيف تحول تدريجياً الهدف النبيل إلى هدف آخر في نهاية المطاف. لا يحاول مخرج الفيلم ماثيو هاينمان أن يأخذ موقفاً من أحد، فهو يترك الكل يتحدث عن نفسه بما فيها أفراد العصابات أنفسهم، وحتى فولي وجماعته والذين يعدون متطرفين من وجهة النظر الأميركية ودافعهم في الأساس عنصري بحت، كما نشاهد بوضوح أن أهداف من عملوا مع ميريليس مختلفة عن أهدافه، ونراقب الأعمال الوحشية التي تقوم بها هذه العصابات. ويمكن القول أن قوة الفيلم تكمن في أنه يكشف واقع ما يحدث عندما لا توجد جهة حكومية قادرة على تطبيق القانون بشكل سليم، فهؤلاء المهربون يهربون ويقتلون ويختطفون، بل ويمثلون أيضاً بضحاياهم، والحكومة المكسيكية لا تفعل شيئاً حسبما ذكر ميريليس تجاه ذلك، بل إنه ذكر أن سبق لهم أن أمسكوا ببعض أفراد العصابة وسلموها للشرطة ثم أطلق سراحهم، كما أن المخدرات تهرب بشكل دائم إلى الأراضي الأميركية وليس هناك من يوقفها. حاز الفيلم على جائزة أفضل إخراج وأفضل تصوير سينمائي من مهرجان صندانس، ومن المتوقع أن يكون من ضمن الخمسة أفلام المرشحة للأوسكار هذا العام، وإن استطاع الفوز في جوائز أخرى فلأنه بحث عما يجعل المواطنين يرفعون السلاح لحماية أنفسهم ووطنهم، وهو يرينا أيضاً أنه لا يمكن لنا أن نتكهن بما يمكن أن تؤول الأمور إليه عندما يترك تطبيق القانون للأفراد، فوحدها الدول الغائب الحقيقي عن الفيلم، وغيابها هو ما يطلق العنان لكل الأطراف التي تتوهم أنها قادرة على حماية الوطن.
مشاركة :