فرضت الحملة التي تشنها السلطات الصينية مؤخرا على شركات خدمات الإنترنت العملاقة في الصين نفسها على المستثمرين وخبراء الاقتصاد، في محاولة من جانبهم لإيجاد تفسير لهذه الحملة التي كبدت سوق الأسهم الصينية مئات المليارات من الدولارات خلال أسابيع معدودة. وطالت الحملة الصينية التي انطلقت تحت شعارات مختلفة مثل حماية حرية المنافسة وحماية خصوصية البيانات والتصدي لتهديدات الأمن القومي، كيانات صينية عملاقة مثل مجموعة علي بابا جروب وتينسنت هولدنجز وميتوان. ويرى بعض الخبراء هذه الحملة باعتبارها تحولا صينيا عن النظام الأمريكي الذي منح شركات التكنولوجيا الأمريكية مثل فيسبوك وجوجل حرية النمو والتوسع حتى تحولت لكيانات عملاقة، إلى النظام الألماني الذي يحد من قدرة الشركات والكيانات الاقتصادية على النمو والتوسع. ويقول شين لي كبير المحللين في شركة الوساطة المالية سووشو سيكيوريتز في تقرير تم تداوله على شبكات التواصل الاجتماعي إن الصين تحولت من "الطريقة الأمريكية" إلى "الطريقة الألمانية". أما كريس ليونج كبير خبراء الاقتصاد الصيني في شركة دي.بي.إس جروب هولدنجز ليمتد فيقول إن النمط الألماني أكثر جاذبية بالنسبة للصين من عدة أوجه. فألمانيا بها بنوك كبيرة مملوكة للدولة وقطاع تصنيع للتصدير قوي ولم تتعرض لأية أزمات مالية منذ الحرب العالمية الثانية. ويضيف ليونج في مذكرة نشرت يوم الاثنين الماضي إن "خروج بكين من النموذج الاقتصادي الأنجلو ساكسوني بدأ بالفعل... النموذج الألماني بعتبر منافسا قويا (للنموذج الأنجلو ساكسوني) كنموذج تنموي". ويقول المحلل الاقتصادي المتخصص في الاقتصاد الصيني تون هانكوك في تقرير نشرته وكالة بلومبرج للأنباء إنه رغم محدودية أوجه التشابه بين الصين وألمانيا، فإن هناك ثلاثة مجالات تقارب على الأقل هي قواعد مكافحة الاحتكار والتركيز على التصنيع وليس الاقتصاد الخدمي والاهتمام بالتعليم. وتحاول الصين الحد من القوة السوقية للشركات الخاصة الكبرى في مجالي التكنولوجيا والعقارات، وحدثت تشريعات مكافحة الاحتكار لكي تشمل خدمات الإنترنت. وخسرت شركات التكنولوجيا الصينية العملاقة مثل علي بابا جروب وتينسنت هولدنجز مئات المليارات من الدولارات من قيمتها السوقية منذ انطلاق التحركات الحكومية الصينية للحد من قوة هذه الشركات في العام الماضي. وفي الأسبوع الماضي تعهدت الصين بمواصلة الحملة مع إقرار مزيد من التشريعات لضمان "تطور صحي لصيغ أعمال جديدة" ترتبط بالاقتصاد الرقمي. وفي حين يقول بعض خبراء الاقتصاد إن مثل هذه القواعد قد تلقي بظلالها على الآفاق الآقتصادية للصين، فإن النموذج الألماني يقول إنه يمكن إقامة اقتصاد متقدم دون الحاجة إلى شركات خدمات تكنولوجية عملاقة. ويقول روجيه كريمر أستاذ الدراسات الصينية في جامعة ليدن بهولندا إن هناك إدراكا بأن "الشركات مثل فيسبوك وتويتر لا تساهم بالضرورة في الصالح العام وأن نموذجها يعتمد على العمل في بيئة قليلة الضوابط... ومن هذا المنطلق ظهرت (في الصين) فكرة تبني النموذج الألماني". ويقول بيتر هيفله مدير إدارة آسيا والمحيط الهادئ في مؤسسة كونراد إيدناور التابعة للحزب المسيحي الديمقراطي الحاكم في المانيا إن الصين استعانت بخبراء ألمان أثناء إعداد قوانين مكافحة الاحتكار "وقد نسخت أجزاء كبيرة من القانون الألماني" في قوانينها. ويعتبر التركيز على التصنيع ثاني أوجه التشابه بين ألمانيا والصين. وبحسب الخطة الاقتصادية الخمسية الصينية الجديدة التي أعلنت في آذار/مارس الماضي، لم تحدد بكين نسبة مستهدفة للاستهلاك من إجمالي الناتج المحلي، لكنها تعهدت بالوصول إلى مساهمة قطاع التصنيع في إجمالي الناتج المحلي إلى 25%. وهذا الكلام يقترب من النموذج الألماني الذي يمثل فيه التصنيع حوالي 18% من إجمالي الناتج المحلي، في حين لا تزيد النسبة لدى الولايات المتحدة عن 11% من إجمالي الناتج المحلي بحسب بيانات البنك الدولي. وتقول دوريس فيشر رئيس قسم الأعمال والاقتصادات الصينية في جامعة فورتسبورج إن "الإعجاب الصيني بالنموذج الألماني يأتي من فكرة أن ألمانيا لم تتخل أبدا عن قلبها الصناعي وأن هذا قد يكون أكثر أهمية من قطاع الخدمات". وتشير البيانات الأخيرة الصادرة عن الحكومة الصينية إلى أنها ترى الشركات الصغيرة والمتوسطة أكثر استحقاقا للدعم من شركات التكنولوجيا العملاقة. في الوقت نفسه فإن الشركات الصناعية متوسطة الحجم تعتبر العمود الفقري للاقتصاد الألماني وتعرف باسم "شركات الطبقة المتوسطة"، والتي أصبحت هدفا حاليا لصفقات الاستحواذ من الشركات الصينية. ويقول برنارد كيمبر الرئيس التنفيذي لشركة إي.إي.دبليو إنيرجي اللمانية والتي استحوذت عليها شركة صينية عام 2016 إن "الشعب الصيني لديه رؤية قوية بأن أساس الاقتصاد الألماني ليس الشركات العملاقة المسجلة في البورصة وإنما الشركات متوسطة الحجم المتفوقة في مجال التكنولوجيا ... الصين ترغب في التعلم من ذلك". أمام ثالث أوجه التشابه بين الصين وألمانيا، فيتمثل في الاهتمام بالتعليم وبخاصة التعليم الفني. وقد شنت بكين خلال الشهر الماضي حملة قوية ضد شركات التعليم الهادفة للربح وأغلقت الشركات التي تساعد الأطفال في تلقي المعرفة خارج أسوار المدارس. في المقابل ترحب السلطات الصينية بمشاركة القطاع الخاص في التعليم الفني، الذي يعتبر أحد محاور الخطة الخمسية الحالية، باعتباره ينطوي على "إمكانيات عظيمة في الوقت الذي تمضي فيها الصين نحو التحديث الاشتراكي". ورغم ذلك، يرى توم هانكوك أن بكين تسعى إلى تجنب بعض الخصائص الأساسية في النموذج الألماني. فالصين لا تقبل بوجود نقابات عمالية مستقلة، وتحرص على استمرار الاستثمارات الحكومية الضخمة وترغب في الاعتماد على الطلب المحلي كمحرك للنمو الاقتصادي وليس على التصدير. وفي حين تفرض الصين قواعد صارمة على صغار ومتوسطي المسؤولين فإن المستويات العليا في الحزب الشيوعي الحاكم لا تخضع لرقابة فعالة. وما بين أوجه اختلاف قليلة وأوجه تشابه كبيرة بين النموذجين الصيني وألمانيا، يبدو أن برلين أصبحت الملهم الأساسي للرؤية الصينية في التعامل مع ملف الشركات العملاقة التي قد تتصور أنها تستطيع وتستحق الحياة خارج عباءة الحزب الشيوعي الحاكم.
مشاركة :