منذ صباح الأحد -الـ15 من الشهر الحالي- والعالم مذهول بالسقوط السريع للعاصمة الأفغانية كابول. والذهول، أو الصدمة، لم يأتِ من الأميركان والأوروبيين والروس والصينيين فقط، إنما من طالبان أنفسهم، الذين لم يتوقعوا أن يصلوا إلى مقصدهم بهذه السرعة! فبعد انهيار الجيش الأفغاني السريع، أعلنوا أنهم اضطروا لدخول العاصمة لحفظ الأمن. ومع أن البعض في منطقتنا شعر بالغبطة لهذا الانتصار، إلا أنه صدم العالم، خصوصا أن أكثر من سيتضرر منه هن البنات والنساء في أفغانستان. وقد ظهرت حكايات على الملأ تظهر عدائية طالبان للمرأة. وتروي إحداها صحيفة وول ستريت جورنال، الثلاثاء 17 أغسطس، فقد روت الصحيفة أن أفرادا من طالبان أخذوا يدخلون الفنادق، وأن مواطنة كندية من أصل أفغاني هربت من حديقة الفندق، عندما شعرت بقدوم طالبان إلى غرفتها، فتبعوها وأجبروها على فتح باب الغرفة، وعندما وجدوها مع زوجها طلبوا شهادة زواجهما. وعندما احتج الزوج ضربوه، لكنهم تركوهما عندما تأكدوا أنهما زوجان. لكن ما غاب عن ذهن مراسل الصحيفة أنه يمكن أن يحصل هذا في أي دولة عربية. فالقانون في الغالبية العظمى من الدول العربية تسمح للشرطة أن تتحقق من أن النزيلين متزوجان. لكن القلق الحقيقي يكمن ليس بمثل هذه الحوادث، وإنما بسياسة طالبان نحو تعليم البنات. وهناك أكثر من إشارة إلى أن طالبان ستكون أكثر مرونة في هذا الموضوع مما يتوقع الكثير، لكن هذه الصورة لن تتضح دون مراجعة للظروف التي أدت إلى احتلال أفغانستان بعد غزو بدأ بعد أيام من تفجيرات 11 سبتمبر التي نفذتها القاعدة في نيويورك. ففي ثورة الغضب، قامت الولايات المتحدة بغزو أفغانستان في 7 أكتوبر 2001 بعد أن رفض الملا عمر -رئيس طالبان آنذاك- تسليم قياديي القاعدة إلى الولايات المتحدة. والحقيقة أن الغزو كان انتقاميا أكثر منه للقبض على قياديي القاعدة. وليكون الغزو مقبولا للضمير الأميركي، ومقبولا دوليا، نشأت فكرة إسقاط دولة طالبان، وإنشاء دولة حديثة في أفغانستان. والأميركان، وكالعادة، وكما حصل في العراق، يستسهلون الغزو وإسقاط الأنظمة، ويسيئون تقدير الجهود المطلوبة لبناء دولة حديثة. فهم ذو كفاءة عالية في العمليات الحربية الكثيفة لضرب قوات الأعداء، لكن انضباطهم والتزامهم بخوض حرب طويلة يصيبه الوهن مع مرور الزمن. وهم حساسون وربما يصيبهم الاضطراب من خسائرهم البشرية. فبعد أن فقدوا خمسين ألفا في حرب فيتنام، أصبح الرأي العام الأميركي لا يتقبل أرقاما عالية من القتلى. فقتلاهم في أفغانستان على مدى عشرين سنة بلغ حوالي 2500، وفي العراق حوالي ضعف هذا العدد. لكن ماذا عن قتلى الأفغان والعراقيين منذ الغزو الأميركي لأفغانستان عام 2001 ومنذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003؟ Volume 0% Loading ad لذلك، ولحساسية الأميركان بفقد جنود، أوكل الأميركان %99 من المهمات القتالية ضد طالبان إلى الجيش الأفغاني، وذلك منذ عام 2014. هذا ما يذكره السفير الأميركي في أفغانستان مايكل ماكنلي خلال الفترة 2014 - 2016 في مقاله في فورين أفيرز Foreign Affairs بتاريخ 16 أغسطس. لذا فإن عبء القتال ضد طالبان والخسائر بالأرواح تحملها الجيش الأفغاني الذي بلغت خسائره في الأرواح حوالي 66 ألفا. لكن هذا الرقم الكبير من الخسائر في الأرواح لا يردده الإعلام الأميركي، وإنما يذكر كل يوم بخسائر الأميركيين من الأرواح البالغة حوالي 2400. يعني أن خسائر الجيش الأفغاني تبلغ أكثر من 27 مرة ضعف خسائر الجيش الأميركي. طبعا عدا عن عشرات الألوف من المدنيين، والسفير الأميركي مايكل ماكنلي يشير إلى ذلك متعاطفا مع الجيش الأفغاني، ويقتبس مقولة من مستشار الأمن القومي للرئيس ترامب ذكر فيها: «أن حربنا في أفغانستان هي معضلة إنسانية بين البربرية والحضارة». وللأمانة، فإن السفير ينقلها بنقد ضمني. وكنت أتمنى أن يضيف السفير مذكرا الجنرال هربرت ماكماستر أن طالبان والقاعدة، كانا قد نشآ نتيجة للسياسة الأميركية وإستراتيجيتها في محاربة النظام الشيوعي الذي تمكن من السلطة في كابول بعد الغزو السوفييتي لأفغانستان عام 1979، الذي شمل غزوا فكريا لنسخة متطرفة من الدين الإسلامي، إضافة إلى تحريض شباب العالم الإسلامي للجهاد في أفغانستان. هذه الإستراتيجية التي مازال العالم الإسلامي يعاني منها فكريا وسياسيا. وعودة إلى يوم الأحد 15 أغسطس -يوم سقوط كابول- فهناك أكثر من دليل أو إشارة إلى أن طالبان ستتغير، وأن طالبان 1.0 التي استولت على الحكم عام 1996 هي غير طالبان 2.0 التي دخلت كابول صباح الأحد. لعل من أهمها أنه بالرغم من هروب رئيس الجمهورية أشرف غني، فإن هناك شخصيتين أعلنتا عن وجودهما في كابول هما: حامد كرازاي -الرئيس الأفغاني الأول بعد الغزو الأميركي- والدكتور عبدالله عبدالله، الذي نافس أشرف غني في انتخابات الرئاسة عام 2019. وهما مرشحان قويان للتفاوض مع طالبان لتشكيل حكومة. ويرتبط حامد كرازاي بعلاقة شخصية مع أهم قائد طالباني، وهو الملا عبد الغني برادار. فالأخير وكارازاي ينتميان إلى نفس الفرع من القبيلة البشتونية أو عشيرة الدوراني. وعندما اعتقلت القوات الباكستانية الملا عبد الغني عام 2010، توسط حامد كرازاي وأطلق سراحه عام 2018، ليخرج من السجن رئيسا لوفد طالبان في مفاوضات الدوحة. كما أن الدكتور عبدالله عبدالله شغل منصب رئيس مجلس المصالحة في أفغانستان. كما أن طالبان وبعد غياب عشرين سنة عن العاصمة كابول، لا تستطيع إدارة الدولة دون طبقة التكنوقراط الذين تدربوا ودرسوا خلال عقدين من الزمان. ولتبقى أفغانستان دولة مستقرة، فإنها بحاجة إلى مساعدة الدول الكبرى بما في ذلك الولايات المتحدة. وهذه الدول ستفرض شروطا أهمها إعطاء نوع من الحرية للمرأة، خصوصا في حريتها لإكمال تعليمها. والحياة لن تكون سهلة للمرأة، لكن المرأة الخاضعة التي تركتها طالبان عام 2001، هي غير المرأة التي ستجدها بعد صباح الأحد 15 أغسطس.
مشاركة :