رحم الله الاستاذ/ محمد بن أحمد الشدي وغفر له وأدخله فسيح جناته، تحدثت عنه قبل مايزيد عن عام من الآن، حينما سردت سيرة لي بعنوان: نقاء الطين الأبيض، وهي سيرة ثقافية عامة تتعلق بكل ما له صلة بالكتاب والمكتبات والمعلومات والشخصيات المؤثرة في حياتي، وهو كذلك! كيف لايكون مؤثراً وقد قربني من العمل الأدبي والثقافي منذ وقت مبكر؟ كيف لايكون مؤثراً وهو الذي ساندني في تنفيذ مهام كثيرة، وقد وجد لدي المقدرة على انجازها فحملني مسؤوليتها؟ وهو كذلك مع غيري من الأصدقاء والزملاء في كافة مناطق المملكة، في مختلف المجالات الثقافية. كنت اعلم أنه يحب طاقات الشباب، ويحب ابراز أي شاب مخلص وفي لوطنه، فقرب ومنح الكثير منهم فرص العمل والانجاز، لكي يكتسبوا الخبرة في مجالاتهم. ربما لايعرف الكثير من القراء والمتابعين لسيرته عن أعماله الأخرى، وهي التي لم تُنشر ولم يُكتب عنها، واقصد بذلك الجانب الإنساني لديه، وهي رفيعة المستوى وعالية الشفافية، كان يسعى دوماً لمساعدة أي أديب أو فنان يمر بضائقة مالية، أو ظروف صحية لايقدر على علاج نفسه مما أصابه، فكان خير معين لجميع هؤلاء، حيث يقوم بنفسه بعرض الحالة عند من يستطيع لمساعدته، ويأتي بالحل في فترة وجيزة، بل كثيراً ما رأيته يوظف عدداً من الأدباء والفنانين على وظائف في الجمعية، وهي ليست وظيفة رسمية ولكن تحت مسمى متعاون، من أجل مساعدته على مواجهة صعوبة الحياة، ولايفرض عليه حضوراً أو ساعات عمل معينة، بل حتى عدم الحضور للجمعية لاستلام راتبه أو مكافأته، وهذه قمة العمل الخيري، والترابط الاجتماعي الثقافي، لهذا سعى كثيراً وكثيراً من أجل إنشاء صندوق الأدباء، لكي يكون كياناً منظماً في الدولة عامة. وقد وصفت شخصية الاستاذ/ الشدي في كتابي بهده الكلمات: (هو كاتب، صحفي، مثقف بوعي كبير، من أوائل من عمل في الصحافة السعودية، في مرحلة المؤسسات الصحفية، ترأس مجلة اليمامة الأسبوعية، وفي عام 1397هـ/ 1977م عين رسمياً رئيساً لمجلس إدارة الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون، ومعه عدد من الأعضاء، بعد أن انتهت مرحلة الصحافة الأسبوعية في حياته. ذكرت سلفاً بدايات تعرفي عليه، ويهمني الآن مرحلة العقد المنصرم 1410- 1420هـ/ 1990 – 2000م، وهذا العقد هو الذي كنت معه في نشاط وعمل ونجاحات متتالية، رأيت منه الحرص على حضور الثقافة السعودية في كل مكان، ولهذا ذكرت في الحلقات الماضية جوانب منها، وأضيف أنه كان مخلصاً لوطنه، ولقادته العظام، وكثيراً ما تعلمت منه هذا الوفاء والاخلاص والعطاء في العمل حتى أصبح نادي القصة السعودي من أبرز أقسام الجمعية، وهو محدود الادارة والميزانية السنوية. الاستاذ محمد الشدي صاحب علاقات واسعة في الساحة الأدبية والثقافية، ولم يمر يوم من دون لقاء أدبي في مكتبه مع أحد هذه الشخصيات، وبعد تواشج علاقتي به أصبح يخبرني – عن طريق سكرتيره – عن ضيفه الموجود في مكتبه، وأحياناً كان يخبرني بنفسه، كان يقدمني للآخرين باعتزاز وافتخار، مما يشعرني بالخجل أمام هذه القامات الكبيرة، وأحياناً يمازح في التعريف بإضافة كلمة منه: هذا من أهل الزلفي! وكأنه يرمي إلى شيء آخر؟ كنت سعيداً بأنه يرغب حضوري في بعض الاجتماعات الثقافية في الجمعية، حتى لو كان حضوري غير مجدول ضمن المجتمعين، لأنه يرغب أن أطلع على بعض تفاصيل العمل في الجمعية، لهذا صارحته يوماً بعد ازدياد العمل لدي في الجمعية وقلت له: هل تتوقع أبو عبدالعزيز إذا تفرغت من عملي الرسمي ورغبت العمل في الجمعية يكون أفضل لي؟ قال لي: (لا لا أنا ما أنصحك تترك عملك مصدر عيشتك وعيشة عيالك من أجل الثقافة! الثقافة ما تأكل عيش؟ خليك كذا متعاون أفضل لك). وأثبتت الأيام صدق جوابه وحكمته العميقة ونصيحته الثمينة. إلا أن عتابي عليه هو ترك الآخرين يعبثون في مسار الجمعية، والاصغاء الغريب والعجيب لنصائحهم على الرغم من قوة شخصيته، وعنفوان رأيه وقراره، مما ضيّع على الجمعية وعلى نفسه فرصاً كثيرة. قدمت له دراسات وتخطيطاً راسخاً مبنياً على قرار رسمي، وهو موجود في درجه: أمر ملكي لإصدار مجلة التوباد قدمه الأمير فيصل بن فهد للجمعية، وأقصد بذلك تثبيت دورية التوباد لتكون مجلة ثقافية وطنية منافسة، كذلك تثبيت سلسلة الكتب التي تصدرها الجمعية، لأن العمل في هذين المسارين خاضع للمزاج، للمصلحة، للمباهاة، وكسر عمل الآخرين، ويحزنني جداً أن تنتشر – الجمعية - في ملفات أخرى فقط من أجل أن يقال اصداراتنا كثيرة ومنتشرة في كل مكان، وهذه خسارة كبيرة في تاريخ الجمعية. مما أعرفه عنه من كتابات كثيرة، ومقالات ودراسات جيدة، نصحته في يوم من الأيام – وأنا تلميذه الصغير – أن يُخرج ما في أدراجه من كتابات له، أن يحفظ اسمه وعمله في تاريخ الوطن الأدبي والثقافي، لكنه كان يسوف كثيراً، ويؤجل عمل اليوم إلى الغد، لأن بريق الموقع والكرسي هو الطاغي في وقته، ولكن المستقبل لا يعرف ولا يعترف إلا بما خلدته الكتب.) وردت هذه الشهادة في كتابي: نقاء الطين الأبيض: سيرة ثقافية، لكن في حيثيات الكتاب جاءت تفاصيل كثيرة عن علاقتي الأدبية والثقافية مع الراحل الاستاذ محمد بن أحمد الشدي غفر الله له ورحمه وأدخله فسيح جناته، منذ بداية الثمانينات الميلادية، أي أنها علاقة تجاوزت عقدين من الزمن.
مشاركة :