تمثل الطريقة العشوائية والمتسرعة وغير المدروسة للانسحاب الأمريكي من أفغانستان، والذي أمر به الرئيس «جو بايدن»، في أبريل عام 2021، والانهيار اللاحق للجيش الأفغاني، واستيلاء طالبان على كابول؛ أكبر كارثة في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، الأمر الذي تسبب في اندلاع سلسلة من الانتقادات السياسية المحلية والعالمية لهذا القرار. وعلى الرغم من أن «بايدن» قد دافع بقوة عن نهجه، وأصر في العديد من المناسبات على أنه «لا يندم على إنهاء التواجد الأمريكي»، فيما يُطلق عليه «الحرب الأبدية» الأفغانية فإن السياسيين والمحللين والخبراء الغربيين اعتبروا القرار «مصدر إهانة كبير للقوة السياسية والعسكرية الأمريكية». وعقب سقوط كابول، انهالت الانتقادات الموجهة للرئيس الأمريكي «جو بايدن» من كلا الحزبين الديمقراطي والجمهوري في استنكار لطريقة إدارته للملف الأفغاني. ولم يكن مفاجئا أن أشدها جاء من الجمهوريين، إذ أشار «ميتش ماكونيل»، العضو بمجلس الشيوخ، إلى أن الأحداث في كابول كانت مثل «مشاهدة إحراج قوة عظمى، حيث تقع المسؤولية مباشرة على أكتاف قائدنا الحالي. ووصف «توم كوتون» تعامل بايدن مع الأحداث بأنه «إهمال وتهور». كما سعى «مايك جونسون» إلى إثارة فضائح دولية سابقة تورطت فيها إدارات ديمقراطية، إذ قال: «ما حدث يجعل المشهد الذي وقع في بنغازي عام 2012، وكأنه مجرد صورة مصغرة وأقل خطورة بكثير». علاوة على ذلك، دعا العديد من الجمهوريين -بمن فيهم الرئيس السابق دونالد ترامب- بايدن إلى الاستقالة «إثر الفضيحة السياسية». وبالمثل، كانت هناك انتقادات من الديمقراطيين. ورفضت «كريسي هولاهان»، وهي من قدامى المحاربين في القوات الجوية الأمريكية، «الاستراتيجية العسكرية والدبلوماسية الفاشلة» للإدارة. كما وصف النائب «سيث مولتون» فشل الإدارة الأمريكية في أفغانستان بأنه «ليس مجرد خطأ يتعلق بالأمن القومي، لكنه خطأ سياسي أيضًا». ولاحظت «كاتي إدموندسون» من صحيفة «نيويورك تايمز» كيف إن الديمقراطيين المعتدلين على وجه الخصوص «غاضبون» من الحكومة؛ بسبب «سوء التخطيط لإجلاء الأمريكيين وحلفائهم». وانتقد النائب «جيسون كرو» كيفية الإجلاء قائلا: «لا يوجد مبرر لرؤية هذه المشاهد في مطار كابول، كان يجب أن نعلن هذا منذ أشهر». وعلى الجانب الآخر، تعرضت سياسة بايدن أيضا لانتقادات من قبل حلفائه السياسيين. وقارن «ليون بانيتا»، الذي شغل منصب وزير الدفاع ومدير وكالة المخابرات المركزية في عهد باراك أوباما، الأحداث في أفغانستان بـ«عملية غزو خليج الخنازير في عهد جون كينيدي، حيث فشلت القوات الأمريكية في الإطاحة بنظام فيدل كاسترو في كوبا»، بالنظر إلى «أنها تكشفت بسرعة، وكان الرئيس -آنذاك- يعتقد أن كل شيء سيكون على ما يرام، ولم يكن هذا هو الحال». وعلى الرغم من الانتقادات التي تلقتها الإدارة الأمريكية فقد بقي مستوى معين من الدعم الحزبي قائمًا. وأشاد العضو الديمقراطي «ريتشارد دوربين» ببايدن لاتخاذه «القرار الصعب بعدم تسليم هذه الحرب الأمريكية الأطول إلى رئيس خامس».. فيما وجهت النائبة الديمقراطية «إلهان عمر» الشكر له «للتعلم من أخطاء الماضي، ولتوضيحه بشكل جلي تكاليف الحرب التي لا نهاية لها». لكن مع ذلك، لا يمكن تجاهل التأثير السياسي المحلي للانتقادات الواسعة لقيادة الرئيس الأمريكي، على الرغم من أن أفغانستان ستظل قضية تتعلق بالسياسة الخارجية. وأشار العضو الجمهوري «كارل روف» إلى أن هناك الآن فرصة مواتية أمام الجمهوريين لكسب دعم سياسي قبل انتخابات التجديد النصفي العام المقبل. وبرر هذا الموقف بزعمه أنه سيكون «من المستحيل» على بايدن أن يزيل «وصمة أنه دفع 39 مليون شخص إلى الهمجية، وقلص من مصداقية ومكانة الولايات المتحدة في العالم». وعلى أي حال، كان للهزيمة في أفغانستان تأثير ملحوظ على نتائج استطلاعات الرأي الشخصية لبايدن، على الرغم من ملاحظة أن قرار الانسحاب لا يزال يحظى بشعبية كبيرة. وأفاد استطلاع أجرته وكالة «رويترز» بأن بايدن تراجعت شعبيته إلى أدنى معدل حتى الآن، إذ انخفضت سبع نقاط مئوية (53% إلى 46%) بعد سقوط كابول. وبالمثل، وجد استطلاع أجرته شركة «ايبسوس» أن أقل من نصف الأمريكيين يؤيدون الطريقة التي يقود بها الجهود العسكرية والدبلوماسية في أفغانستان. وفي 16 أغسطس 2021 -اليوم التالي لسقوط كابول- أفادت صحيفة «ذا هِيل» بأن استطلاعات الرأي أظهرت أن الغالبية العظمى من الأمريكيين لا يوافقون على تعامله مع الوجود العسكري الأمريكي في البلد الذي مزقته الحرب، حيث عارضه 69% ووافق 23% فقط. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن استطلاع رأي «رويترز» -السالف الذكر- وجد أيضًا أن «68% من الأمريكيين الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و65 عامًا اتفقوا على أن الحرب «كانت ستنتهي بشكل سيئ، بغضّ النظر عن موعد مغادرة الولايات المتحدة»، وأن 61% ممن شملهم الاستطلاع مازالوا يفضلون أن تواصل واشنطن انسحابها من المنطقة، كما هو مخطط لها». ولإثبات الارتباك الذي يمكن أن ينشأ من اتخاذ القرارات بناءً على بيانات استطلاعات الرأي، وافق 51% من الأمريكيين على فرضية أنه «كان من المجدي أن تُترك القوات في أفغانستان عاما آخر»، فيما أراد 50% أيضًا عودتها ثانية إلى البلاد لمحاربة طالبان». وبهذا المعنى، يبدو أن الرأي العام الأمريكي متردد بشأن أفضل مسار للتعامل مع الوضع في أفغانستان. فمع قرار بايدن الأولي بالانسحاب من البلاد، أظهر استطلاع شركة «يوجوف» لمجلة «الإيكونوميست»، الذي أجري في أبريل 2021، أن «هناك 56% يؤيدون الخطوة، مقابل 25% فقط معارضة». وهكذا، فإن الغالبية العظمى من الانتقادات الحالية المستمدة من كيفية إجراء هذه العملية أكبر من الحديث عن إجراء العملية في الأساس. ووفقا للعديد من المحللين، فإن التراجع الأخير في شعبية بايدن لا ينبغى إرجاعه إلى قضية أفغانستان فقط، وإنما يجب وضعه إلى جانب عدد من القضايا الأوسع، التي تؤثر على المواطن الأمريكي، بما في ذلك الاقتصاد والتضخم.. فضلا عن الزيادة الأخيرة في أعداد المُصابين بفيروس كورونا، مع ارتفاع الحالات الجديدة بنسبة 52% في البلاد، خلال الأسبوعين الماضيين 2-16 أغسطس 2021 فقط، وزيادة الوفيات بنسبة 87% خلال ذات الفترة. علاوة على ذلك، من المتوقع حدوث انخفاض في معدلات التأييد للإدارة الأمريكية بعد عدة أشهر على بدء فترة الرئاسة. وأشار «جيفري سكيلي» من موقع «فايف ثيرتي ايت» إلى أن الانخفاض الأخير في معدلات قبول بايدن لا يزال ضئيلًا نسبيًا، إذ لا يزال معدل تفضيله حوالي 50%؛ وهو رقم يجب اعتباره مرتفعًا جدًا نظرًا إلى استمرار الطبيعة الاستقطابية للسياسة الأمريكية المعاصرة، موضحا أن «هذا المستوى المتدني لأدائه في الوقت الراهن أسوأ بكثير مما فعله ترامب خلال فترة رئاسته على الإطلاق». وفي الوقت الحالي، ربما يكون الأمر الأكثر ضررًا لرئاسة بايدن هو التراجع في معدلات شعبيته عالميًا. وعلى الرغم من أنه قدم نفسه حتى وقت قريب على أنه رجل دولة مهتم بالشأن الدولي، ويتحمل المسؤولية أمام زعماء العالم الآخرين في ضرورة توفير متطلبات الأمن والاستقرار، إلا أن قراره المتسرع بالانسحاب قوّض مصداقيته إزاء هذا التوصيف. وانتقدت الحكومة البريطانية دور واشنطن في تفاقم الكارثة الأفغانية الراهنة. وأصدر الكثير من أعضاء «مجلس العموم» سلسلة من الانتقادات أيضا. وأشار زعيم الحزب الديمقراطي الليبرالي، «السير إد ديفي»، إلى أن الانسحاب «كارثي بكل معنى الكلمة»، و«خطأ لا يمكن تجنب تبعاته». في حين، اعتبر وزير الدولة السابق لشؤون الشرق الأوسط، «توبياس إلوود»، أن الانسحاب كان «أمرًا خاطئا تمامًا». فيما وصف «توم توجندهات»، رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس العموم، تشكيك الرئيس الأمريكي في إرادة الجيش الأفغاني بالأمر «المخزي». وبالمثل، كانت هناك إدانات بنفس القدر من كافة القادة السياسيين البريطانيين السابقين والحاليين على حد سواء. ووصف زعيم حزب العمال «كير ستارمر» قرار الرئيس الأمريكي بأنه «خطأ كارثي أساء تقدير حجم تداعياته»، في حين أشار «مايكل هاورد»، زعيم حزب المحافظين السابق، إلى أن الانسحاب «سيراه التاريخ خطأ كارثيًا لطخ سيرة هذا الرئيس». وفوق هذا وذاك، وجهت رئيسة الوزراء السابقة، «تيريزا ماي»، سؤالاً في مجلس العموم لحكومتها قائلة: «ماذا سيُقال عن الناتو وأعضائه إذا كنا معتمدين كليًا على قرار أحادي الجانب اتخذته الولايات المتحدة من دون أدنى علم منا؟». من ناحية أخرى، أشار «ديف كيتنغ»، من «المجلس الأطلسي»، إلى أن «الطريقة التي انتهت بها هذه الحرب تمثل أزمة شرعية للتحالف عبر الأطلسي، ولحلف الناتو على وجه الخصوص». وأنه «بعد أربع سنوات من العداء تجاه أوروبا من قبل إدارة ترامب»، لم يختلف الوضع كثيرًا، وظهر عمل أمريكي أحادي الجانب بالانسحاب من أفغانستان من دون موافقة الدول الغربية الأخرى، «وهو آخر شيء كان يحتاج إليه التحالف في هذا الوقت تحديدًا في بداية فترة رئاسة جو بايدن». وفي ضوء الانسحاب الكامل للقوات الأمريكية من أفغانستان؛ دعا العديد من الشخصيات السياسية الأوروبية دول القارة إلى ملء هذا الفراغ. وفي هذا الصدد، كتبت «ناتالي لويسو»، رئيسة اللجنة الفرعية للأمن والدفاع في البرلمان الأوروبي، في «المجلس الأطلسي»: «أنا متأكدة من أن قرار الرئيس الأمريكي يحظى بشعبية في الداخل بقدر ما هو مثير للجدل خارجيًا»، لكن بعد الانسحاب من أفغانستان، ستكون هناك استجابة مشتركة على «المستوى الأوروبي» -بما في ذلك المملكة المتحدة- من شأنها أن تسمح للدول الغربية «بمواجهة تحدياتها في هذا الشأن»، أي فيما يتعلق بحماية اللاجئين ونشطاء حقوق الإنسان. وتؤكد موجة الغضب من جانب حلفاء الولايات المتحدة في الناتو أن التداعيات السياسية لقرار بايدن ترك أفغانستان لمصيرها ليست ذات صلة بواشنطن فقط، بل بالعالم أجمع؛ إذ إن الانسحاب الأمريكي وسقوط أفغانستان في أيدي طالبان سيكون له تداعيات عالمية، ولا سيما فيما يتعلق بتقوية شوكة الإرهاب الدولي وتراجع الالتزام بحقوق الإنسان والأمن الإقليمي. وعلى جانب آخر، ربما تكون الانتقادات الموجهة لنهج الولايات المتحدة بشأن ضرورة إنهاء التورط في تلك الدولة التي مزقتها الحرب هي ما قادت بايدن إلى تقليص معدلات الإنفاق العسكري، والانسحاب من قيادة الشؤون الدولية، والتصرف من جانب أحادي عبر الاعتماد على الرأي الداخلي، فحسب بدلاً من التعويل على التعاون الدولي. على العموم، فإنه على الرغم من أن استطلاعات الرأي تشير إلى أن قرار بايدن سحب قواته من أفغانستان قد لاقى قبولاً شعبيًا في الأساس، إلا أن الطريقة المتسرعة وغير المنظمة، التي تم تنفيذه بها، لم تحظ بمثل هذا الدعم والقبول. لذلك، ففي حين أن عناوين الأخبار التي تداولتها الشبكات الإخبارية الأمريكية، مثل «شهر العسل السياسي لجو بايدن انتهى رسميًا»، قد تتصف بالمبالغة، فإنه ليس هناك شك في أن ما أسماه «جوش ليدرمان» من شبكة «إن بي سي نيوز»، من «أن أول قرار قد حدد ملامح السياسة الخارجية لبايدن» لم يحظ بالتصفيق الواسع النطاق الذي يطمع فيه أي رئيس أمريكي».
مشاركة :