«هل تعرفون من أنا؟ مواطن يسكن في دولة قمعستان وهذه الدولة ليست نكتة مصرية او صورة منقولة عن كتب البديع والبيان، فأرض قمعستان جاء ذكرها في معجم البلدان ... وأنّ من أهم صادراتها حقائب جلدية مصنوعة من جسد الإنسان إنني مواطن يسكن في مدينة ليس بها سكان، ليس لها شوارع ليس لها أرصفة، ليس لها نوافذ، ليس لها جدران، ليس بها جرائد غير التي تطبعها مطابع السلطان! عنوانها؟ أخاف أن أبوح بالعنوان كل الذي اعرفه أنّ الذي يقوده الحظ إلى مدينتي... يرحمه الرحمن...». نزار قباني كل أربعين ثانية ينهي شخص ما في مكان ما في العالم حياته، كما جاء في تقرير منظمة الصحة العالمية. تأخذ المشكلة بعداً آخر، عندما يقرّر أحدهم أنّه لن ينهي حياته وحيدًا، بل سيأخذ معه أرواح العشرات، وربما المئات، أو حتى الملايين، في عملية انتحار جماعي. في تشرين الثاني 1978 مثلًا، مات أكثر من 900 شخص، بينهم 276 طفلاً، من أتباع الكنيسة الشعبية لـ«معبد الناس» في مدينة «جونز تاون» في غوايانا، بعد تناولهم عصير فاكهة ممزوجًا بالسيانيد. بدأت الأحداث عندما أنشأ الأب «جيم جونز» طائفة دينية تنبذ الرأسمالية، وتبشّر بالمساواة والمبادئ الاشتراكية، وأسس معبده، ودعا أنصاره إلى الهجرة من سان فرانسيسكو إلى غوايانا لإقامة مجتمع مثالي. ولد جونز لعائلة فقيرة، كان طفلاً ذكيًا لكنه كان غريب الأطوار، وصاحب أفكار وحجج فيها مزيج من المسيحية الإنجيلية وأفكار العدالة الاجتماعية، أدّت إلى اجتذاب مئات من الناس ليتبعوه، وادّعى بعدها أنّه تجسيد للمسيح وبوذا. كان يعتقد أنّ «الأتباع» في «معبد الناس» يعيشون في سعادة ورضا، ولكن بعد فترة تناقلت أخبار عن وقائع عذابات متعدّدة الأشكال وخطط انتحار. بعد تداول الأمر في الصحافة الأميركية، زار عضو في الكونغرس لتقصّي الحقائق مع صحفيين ومصورين معبد «جونز تاون». بعد استجواب النزلاء، اكتشف التحقيق أنّ «جونز» يستعين بأتباع مخلصين مدججين بالسلاح لحراسة المعبد، لإجبار المقيمين على تنفيذ ما يأمر به. حاول عضو الكونغرس مغادرة المكان مع نحو عشرين من أعضاء «معبد الناس»، لكن قبل صعودهم إلى متن الطائرة، أطلق حراس المعبد النار عليهم. لقي خمسة أشخاص حتفهم، من بينهم عضو الكونغرس ومراسل ومصورون وأحد أتباع المعبد. عندها، توقّع «القائد جونز» تبعات ما قام به، فدعا أتباعه للانتحار بطريقة ثورية حتى ينجوا من شرور العالم الخارجي. تمّ حقن الأطفال بالسمّ، وشرب الكبار العصير المسموم، وانتحر «جونز» برصاصة اخترقت رأسه. إنتهى الاقتباس... الواقع هو أنّ تلك القضية كانت نسخة مصغّرة عن قدرة بعض القادة من ذوي عاهة «جنون العظمة» على دفع الجموع إلى الموت المؤكّد. ورغم أنّ بضعة مئات من البشر ماتوا في تلك القضية، لكن العدد يصبح هامشيًا بالمقارنة مع قرار الاستمرار في الحرب والموت والمواجهة «إلى النهاية»، تحت شعار «الموت أو النصر». ولو كان قرار الموت محصورًا بالقائد العظيم الملهم والمعصوم بأن يقاوم، كما فعل «سلفادور أليندي» في قصر الرئاسة، حيث واجه وقُتل مع المدافعين عن «سيادة» دولة تشيلي، لقلنا إنّ «الحياة وقفة عز فقط»، وأنّ هذا الموت قد يكون شكلًا من أشكال وقفات الأقوياء بنفوسهم! لكن المقيت والمرعب هو أن يتمترس قائد عظيم وراء ستار الشعب المعتر المغلوب على أمره، ويقّرر جرجرتهم إلى الانتحار الجماعي بشكل من الأشكال، كالمرض والجوع والاحتراق في صهريج محروقات... في حين أنّه يخطط للهروب من ساحة المعركة، في لحظة ما، تاركًا «المؤمنين» به وبإلهامه عرايا أمام الموت والقهر. أو أن يتمترس القائد، كما فعل هتلر مثلًا في آخر الحرب، في ملجأ محصّن تحت سابع أرض، فيما كان الموت يقضي على البشر، وآلة الحرب تطحن الحجر. والمثير للعجب، هو أنّه اليوم، وبظل العدالة الدولية، فإنّ هذا القائد، سيُحاكم ويقضي فترة محكوميته، إن قُبض عليه، في زنزانة فقط، ولمدة محدودة أيضًا! في لبنان، قيادتان ملهمتان، تعتقد كل واحدة منهما أنّ بداية التاريخ كانت معها، وأنّ نهايتها، أو نهاية مشروعها، تؤشر الى نهاية الأزمنة. وما استعصاء الحلول في قضية سلاح الميليشيات من جهة، واستحالة تأليف الحكومة لمجرد إدارة الكارثة، من جهة أخرى، إلّا انعكاس منطقي لوجود «جيم جونز» أو «أدولف هتلر» أو «هيروهيتو» أو «ماري أنطوانيت» في موقع السلطة. فلمن يستغرب حتى الآن كيف لم تركب حكومة، ونحن في وضعنا المتدحرج بشكل سريع إلى جهنم، الجواب يأتيه في ما سبق.
مشاركة :