محمد بركة في (حانة الست): هو صحيح الهوى غلاب؟

  • 9/1/2021
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

أكاد أزعمُ أن فن السيرة الذاتية في الأدب العربي قد ناله ظلمٌ كبير من كُتّابه، الذين خرجوا به من إطار التأريخ والتوثيق والبوح المدوَّن، إلى فضاء تجميل الذوات الكاتبة، وتحسين الصور الباهتة، بل واختراع تواريخ مزيفة تتكيء على الجهل بجذور أصحاب هذه السير. وما كانت الأعمال المستثناة من تلك المساحيق المجملة إلا ضحية ظلم آخر؛ وهو الإهمال لها أو الهجوم على أصحابها، أو النيل من قيمتها. وقد بقيت أجساد السير القليلة المنشورة أسيرة لهذين الاتجاهين؛ رماح التزييف أو سهام الهجوم. وقد رأينا كيف أن كبار المبدعين في الشرق، بلغتنا العربية، ينأون بأنفسهم عن المصارحة المدونة، فالمكاشفات – التي قد تهدم دولا – يمكن أن تؤسس قطيعة بين الأفراد، وتغييبا للمصالح، فلم يقو على تدوين السيرة الذاتية إلا قليلون في تاريخنا الأدبي والفني مثل طه حسين، ولويس عوض، ومحمود بيرم التونسي، ويوسف وهبي… وبات العثور على سيرة مجهولة لشخصية استثنائية تدون كل شاردة وواردة، يتطلب أحد أمرين؛ إما الكشف التاريخي لتلك السيرة، في صندوق كنوز، أو درج أسرار، أو العثور على روائي باحث، يمتلك شجاعة تكفيه ليكون صاحب ذلك الصندوق، مثلما يمتلك من الخيال ما يرسله لمرافقة تلك الشخصية منذ الميلاد، فيكون أقرب لها من حبل الوريد، ليتمثل شخصيتها جسدا وروحًا، بل ويتسرب إلى كوامنها لتحدثه بأسرارها، وتوسده تلافيف دماغها ليقرأ أفكارها، فلا يروي كشاهد، ولكنه ينقل لنا بلسان الشخصية ما يتخطى الأزمنة ليصل إلينا بلغة سردية شاعرة، لا تشوب بلاغتها الفصحى إلا العامية الفصيحة. هكذا كان لسان الحال حين بدأتُ قراءة أحدث أعمال الروائي محمد بركة (حانة الست)، وقد عمدتُ ألا أقرأ انطباع الكثيرين عن الرواية، وقراءاتهم لها، ليكون لي متسع للتأمل فيها، باحثا عما قدمه بركة في هذا العمل، ليس فقط كواقع روائي، ولكن كتقنية ولغة وعالم معرفي. إنها العناصر التي تأخذ بنا من كون اختبار (حانة الست) عملا من أعمال السيرة الذاتية، لنكون أمام رواية أدبية راقية. وإذا كان مفتاح كثيرين من كتاب الرواية المعاصرة هو العثور على مخطوط رواية يعيدون تقديمها للقاريء، بعد التقاطع مع أحداثها، فقد تجاوز بنا بركة هذا المأزق السينمائي ليأخذنا إلى صاحبة المخطوط، لتحكي هي بلسانها الأحداث، حديث الصاحبة للصاحب، الذي رأت فيه ما وصفنا من شجاعة وخيال، لتخصه وحده بحكايتها النادرة والآسرة والتي لم يسمعها أحدٌ كاملة قبله. وكأنني أسمع في مفتتح رواية (حانة الست) صوتها يغني بترجمة أحمد رامي للرباعيات: ” سَمعتُ صوتاً هاتفاً في السَّحر، نادى مِنَ الحانِ: غُفاةَ البشرْ، هبوا املأوا كأسَ الطِّلى قَبلَ أنْ تَفعمَ كأسَ العُمرِ كَفُ القدَرْ“. آتية لتهب يدها الكاتبة؛ الروائي محمد بركة، خلاصة حكاياتها وعطر مواقفها، وقع قطرات الغضب والحرمان، الغيرة والانتقام، مضافا إليها لعبة الست، وهي ترتطم داخل كهفها البعيد السري، لتحدد مساحة الهامش وآفاق المتن، سحر المقدمة وشجن الختام“. ينقل لنا بركة، بوحي أم كلثوم وإلهامها وتنزيلها، عدة عوالم متباينة؛ عالم القرية الذي عرف طفولتها، وعالم القاهرة الذي شهد نضوجها، ثم عالم الكوكب كله الذي صارت كوكبه! النقلة التي أحدثتها ثومة،كما تناديها أمها، أو أم كلثوم كما سماها والدها، في حياة عائلتها الصغيرة وقريتها، ومحيطها، كانت تكفي لنعرف أن تلك المعجزات الصغيرة التي حققتها تشبه قطع الموزاييك، التي تكون صورة أكبر، قوامها عدم الاعتراف بالمستحيل. وبما أن الست التي نعرفها ندرك سطوتها على من حولها، فلا بأس من أن نستجيب للحكايات الروائية في طفولتها، فنصدقها، لندرك أن تلك السطوة وراءها خبث طفلة عنيدة، كانت تنال ما تريد، بالدموع سلاحا حينا، وبالمؤامرات الصغيرة أحيانا أخرى. محمد بركة القصص التي أملتها الست على بركة تمعن في تصوير البؤس الذي عرفته طفلة، كما يتجلى في حكايتها عن جمع الروث: “كان روث البهائم حرفتي الأولى في الحياة ومهارتي الأنثوية على درب مصارعة ثور الفقر وتجنب ضربات قرنيه القاتلين، أتعلق بأطراف ثوب أمي الأسود مثل نعجة تائهة على الطرقة الزراعية، يقابلنا كنز كريه الرائحة فيتهلل وجهها، أشيح بوجهي بعيدا فتنهرني بعينيها. تغوص أناملي – التي لم تُخلق إلا لتصفح النوتة الموسيقية – في روث البقر والجاموس الدافيء كجثة حديثة الوفاة. تبتسم أمي وتثني عليَّ: شاطرة يا ثومة. كلمة تشجيع عابرة لكنها تطلق في داخلي طاقة مرعبة وأنا أنقل الروث إلى صينية قديمة صدئة، يقبل علينا من بعيد أحد الفلاحين وهو يقود عربته الكارو ملهبا ظهر حماره بالكرباج، فتسارع أمي إلى إخفاء وجهها خلف طرحتها السوداء وهي تشهق مأخوذة: يا عيب الشوم. لا يليق أن يراها أحد وهي في هذا الموقف، فهي أولا وأخيرا فاطمة المليجي على سن ورمح، بنت الأصول التي جار عليها الزمن، سليلة الأشراف التي تنحدر شجرةنسبها من نسل الإمام الحسين حفيد خير الأنام. نعود للبيت بصيد ثمين، نصنع من الروث أقراصًا ثم نتركها تجف فتصبح وقودا مثاليا لفرن الخبيز وموقد الطبخ”. إنما أطلت في هذا المشهد المقتبس لأقول لكم إنه عينة من التفاصيل المرسومة بعناية التي تمتليء بها (حانة الست)، وهي تفاصيل تعي بالتاريخ والجغرافيا،وكأننا أمام قراءة سوسيولوجية موازية للأحداث التي عرفنا منها طرفا، ونقرأ الآن الخفي بين السطور، كاشفا ومفسرا. سترد (الست) على تواريخ أخرى قدمتها للحياة العامة، تملي على بركة “الفرحة هي الطرف الأزرق من الطيف، أصطادها كل صباح في رحلتي إلى مقر الكُتّاب، لم يكن الوضع مأساويا كما صوره مسلسل تلفزيوني يحمل اسمي، فليس صحيحا أننا كنا نجلس على الأرض مثل الكتاكيت في الشتاء؛ كانت لدينا مقاعد خشبية نسمي الواحد منها (تختة)”. طبعا لم تتابع أم كلثوم في جنتها حلقات المسلسل، الذي أذيع بعد وفاتها بسنوات طويلة، لكننا سنكتشف بين حين وآخر وجود خيالين؛ خيال بركة الذي يقدم مثل هذه التصويبات، وخيال ثومة الذي يقدم أحكاما وصفات ووقائع غير مألوفة: “لأول مرة سأرى القاهرة، المدينة التي تفرق دمها بين مختلف الأعراق والجنسيات، احتضنت جميع الغرباء بشرط ألا يصعد أحدهم لسريرها بعد أن يسكره كرم الضيافة طوال الليل. الحسناء الحائرة بين اليشمك والسيقان العارية، بين الحرملك والكازينو، بين ابتهالات الفجر في الجامع الأزهر وقرقعة الشمبانيا في كلوب “ألف ليلة”. مدينة الندم والخطايا.” تستدعي المسلسل اليتيم الذي يحمل اسمها مجددا، حين تستدعي حبها الأول، لولو كما تسميه في الرواية، أو الشيخ أبو العلا، وقصة الغرام به تصلح مسلسلا قائما بذاته: “أنفي الحب فأرتدي قناع التلميذة وأخبيء في كم الياح أنفاس الفتاة العاشقة، لم يخبركم أحد من قبل أنه يكبرني فقط بعشرين عاما، ومع هذا المزيج من الرجولة الحارة، والشارب المفتول، والعيون السوداء يصبح لقاؤنا في الفراش قصيدة كتبتها السماء. “لقاء السحاب” الحقيقي والذي طالما تقت إليه، وليس تعاوني مع ملحن أصلع ضعيف البصر يسمونه مجازا “موسيقار الأجيال“.” وهكذا بجرة خيال واحدة، تقضي ثومة على عبد الوهاب، في مقارنة يخسرها أمام “لولو”. هل هذا خيال الست القاسي، أم هو مخيال بركة الأكثر قسوة؟ في جلسة استماع ببيت أبيها، تقول، عن حضور الشيخ: “وحين وصلتُ لخاتمة القصيدة فوجئت به يغنيها معي وكأننا أمام المأذون نجري مراسم عقد القران: لئنْ جدت أو جرتَ أنت المُراد وما لي سواك مليحٌ يُحَب”. ثم تشير لاعتزازها باسم الآنسة أم كلثوم الذي نادها به الشيخ، وبالقصيدة التي طلبها، وكأنه يطلب يدها: أراك عصي الدمع، مما دعاها كما يقول بركة على لسان ثومة: “الآن بتُّم تعرفون لماذا تلك القصيدة بالذات غنيتها ثلاث مرات؛ 1926 م من تلحين عبده الحامولي على مقام البيات، و 1944 م من لحن الشيخ زكريا أحمد على مقام السيكا، و 1964 م من لحن رياض السنباطي على مقام الكرد. ليست مجرد واحدة من عيون الغزل العربي كتبها قائد عسكري مشهود له بالبأس في مثارعة الرومان، اكتسبت القصيدة عندي معنى خاصا للغاية، صارت ذكرى لكل ما هو عصي على التكرار.” وماذا عن أحمد رامي؟ “جاءني رامي بوسامته ورغبته الشديدة في أن يحول كل شيء إلى قصيدة؛ طريقة كي البدلة، ضبط الطربوش على الرأس، حتى “صباح الخير ” يقولها كمن يجرب مفتاح أغنية، قال إنه عرَّج على الشيخ ليسمعه شيئا جديدا كتبه وبالمرة يسهر عنده في البيت، قام اليخ ليصنع كوبين من الينسون مداعبًا رامي: لعل الله يتوب عليك من المنكر.” في هذه الليلة يصاب الشيخ بشلل نصفي، ويقول وهو يضحك أمام رامي الذي يغالب الدموع: “يا رجل المفروض أن تبارك لي؛ الفالج مرض العظماء، وهل أنا أفضل من الجاحظ أو الأصفهاني؟” وتعترف (الست): انهار أملي في أن تكتمل أنوثتي على يديه، تقمع الشهوة فلا يبقى للعاشقة سوى الحنان. لم أعد أرى فيه إلا طفلي الكبير.” يعذبه بكاؤها أمامه، فيرجوها سامي بك الشوا ألا تبكي، لأنه يضحك أمامها، لكنها حين تغادر ينهار ” حتى يعجز بوليس القلم السياسي نفسه عن إيقاف دموعه.” سينثر على الصفحات حكايات الست وهي تعيش التودد مع الجنس اللطيف، صبية مع (عزيزة)، وشابة مع أكثر من شخصية منها السيدة اللأربعينية المعجبة التي طلبت لقاءها بعد نهاية حفل سينما رمسيس: “لو كانت غُرة الشهر أول ليالي القمر فيه، وغرة القوم شريفهم… فهذه سيدة ما بعد الغرة ، قوامها هو المثال الأول والأخير لما يجب أن يكون عليه جسد النساء، الطول حين يبلغ تمامه فلا يزيد أو ينقص، القباب التي تبزغ هنا، والبشرة المستوية بلا أدنى ترهل هناك. والعطر؟ لعنة الله على هذا العطر! أم تراها الرائحة الطبيعية لجسد مكتمل مستغن؟ جسد ليس بحاجة إلى لي أعناق الرجال كي يعزز ثقته بنفسه؛ الفم يفوح بالنعناع والنهدان يحكيان مسيرة نبات إكليل الجبل، والإبطان يعصفان بمزيج من اليوسفي والليمون. ولا شك عندي أن هناك _تفهمون ما أعني بالتأكيد _ تهب بقوة رائحة العشب المجزوز”. بزيها الرجالي لم تفصح أم كلثوم عن شخصيتها الحقيقية للزائرة، بل قالت للأنيقة إنها الخادمة، وكانت الليلة فاصلا لأن تودع المعطف والعقال وتكتشف أنوثتها: “أعيد اكتشاف جسدي. لم أعد أرتدي المعطف والعقال أو أواري نهدي بعيدا عن الناس، لن أتنكر في زي فتى بدوي أمرد يثير بكحل عينيه ونعومة صوته رغبة متوارية في الظلال البعيدة”. الشيخ مصطفى عبد الرازق في باريس على نحو خاص استمتعت بالفصول التي تقاطعت فيها سيرة الست مع الشيخ مصطفى عبد الرازق، شيخ الأزهر، فقد عشت معه مسافرا ومقيما، بعد أن حققت رحلته خارج مصر (مذكرات مسافر) وداخلها (الشيخ مصطفى عبد الرازق مسافرا ومقيمًا)، وعرفت فضله على الغناء حين وفر تلك المظلة الكريمة التي غنت تحتها أم كلثوم، والتي جعلت حضورها في القاهرة وحريتها في الفن متاحين. بل إن التحول من شخصية ثومة القروية إلى شخص أم كلثوم القاهرية بدأ مراحله الثورية هنا، في قصر شيخ الأزهر. الفصول التي بدأت بسيرة الشيخ مصطفى عبد الرازق يمكن أن نسميها محطات تخييل روائي لوقائع “صاغها خيال المؤلف استنادًا إلى وقائع مغيبة وحقائق منسية.” لكننا، مع اختلاف هذه المحطات، سنعثر على اللغة التي رافقتنا، فيها الشعر، وبها المثل الشعبي، وتمس إحالات للبيان في آيات الكتاب، وغير اللغة سنجد عين المؤرخ الذي يفند الشائعات، والناقد الذي يقيم النصوص، والشاهد الذي يستدعي ما يقي مبه واقعه الروائي. ففي محطة عبد الحليم حافظ، لن نأتي على اسمه، فهو (الولد)، وليس (ابن الثورة)، بل (ابن السهوكة)، ويسميه الجمهور (العندليب)، ستستعيد قدرتها على العبث بالآخرين، منذ كانت طفلة تكسر ألواح مرتادي الكتاب في القرية لأنها حرمت من التعليم، إلى الضحك على عبد الحكيم عامر، حين أراد أن يأتي بالوصلة الثالثة للمطرب الشاب، فإذا بها تعرف (عبر ملحن في الفرقة)، فترسل من يخبر الرئيس جمال عبد الناصر بنيتها في الاحتفاء بثورة يوليو بأغنية تشدو بها للمرة الأولى: “ليس مهما أن لحن الأغنية – بعيد عنك حياتي عذاب – غير جاهز، والفرقة لم تتدرب عليه بما يكفي حتى أنني سأستخدم نفوذي لحذفه من تسجيلات الإذاعة والتلفزيون فيما بعد؛ المهم أنني أديت الوصلة الثالثة، ووجهت صفعة مزدوجة للولد وللراعي الرسمي له … معالي وزير الحربية. ماذا فعل مطربكم العاطفي؟ ملأ الدنيا وشغل الناس بالحكاية الوحيدة التي يجيدها، لم تحتمل معدته فنزفت، انهار القمر فبكى، حمل وديع أضنته الجراح، وأنا الذئبة التي يسيل الدم من شدقيها،لا تلوموني إذا حين يقبل عليُ في حفل زفاف هدى كريمة “الريس” فأشيح بوجهي بعيدا وكأنني لا أراه”. أم كلثوم بريشة الفنان عماد عبد المقصود ستضطر أم كلثوم إلى الكتابة عن طبيبها الحفناوي بالاسم، وهو اضطرار لم يمنعها من البوح بكل ما تريد قوله عنه، بلغته القاسية، في حين غيبت أسماء أخرى، وكأن هناك اتفاقا ضمنيا بين الروائي محمد بركة، وهاتفه الذي يملي عليه؛ أم كلثوم، بألا تذكر الأسماء الجدلية، ربما لأسباب قانونية، لذا سنقرأ عن أسمهان دون أن نرى حروف اسمها، وسنعرف محمد التابعي من غير استدعاء لقبه، وسنغوص مع معركتها مع الملحن زكريا أحمد دون أن يُدَوَّن اسمه، مثلما كان الحال مع عبد الحليم. وكأن اليد التي روضت الروث من السكة الزراعية في طماي الزهايرة، لم تغسلها تماما، وكانت تجلبه، طريا وساخنا كجسد صعدت روحه للتو، لتضعه على سيرة من لم يقف أسيرا لها طائعا لجبروتها.

مشاركة :