عندما رحلت سيدة الغناء العربي أم كلثوم قبل أربعين عاماً، كتبت مقالاً تحول إلى فصل في كتابي الأول دفاعاً عن الأغنية العربية أتساءل في عنوانه: ماذا سيفعل رياض السنباطي بعد رحيل أم كلثوم؟ ويبدو أن هذا التساؤل كان تعبيراً عن قلق فني في محله. آخر لحن للسنباطي شدت به أم كلثوم في حفلتها الأخيرة، قبل رحيلها بعامين، كان رائعة بيرم التونسي ورياض السنباطي القلب يعشق كل جميل غنتها في فبراير/ شباط 1973 مع آخر ألحان عبد الوهاب لها ليلة حب. ومع أن السنباطي قد عاش ست سنوات بعد رحيل أم كلثوم (1906- 1981)، فإنه قضى هذه السنوات فيما يشبه الصمت الفني الطويل، حيث لم نسمع منه سوى لحن لوردة وآخر لفايزة أحمد، وهما رغم قيمتهما الفنية العالية، لا يعتبران من الروائع الخالدة للسنباطي. كما لحن قصيدتين لفيروز، ليستا أيضاً من روائعه الخالدة، ولم نعرف لهما تسجيلاً بصوت فيروز. معنى ذلك، أن رياض السنباطي قد أدمن منذ منتصف الأربعينات التخصص وأحياناً التفرد في التلحين لأم كلثوم، عندما كان الاثنان (هي وهو) في ذروة نضجهما الفني، حتى إن اسم رياض السنباطي يحتل المرتبة الأولى في تاريخ كوكب الشرق الفني، مع أنه جاء إليها متأخراً، بعد رحلة فنية مجيدة مع محمد القصبجي وزكريا أحمد. والحقيقة أنه كما ارتبط اسم هذا العملاق الموسيقي بالتلحين لأم كلثوم، فإن اسمه قد ارتبط في الوقت نفسه، بعظمة إتقانه لتلحين القصيدة الغنائية العربية، التي كان فيها المنافس الأبرز لمحمد عبد الوهاب مطور تلحين القصيدة الغنائية بعد أبو العلا محمد، وصاحب القصائد الخالدة التقليدية والحديثة (يا جارة الوادي والجندول، على سبيل المثال فقط). إلا أنه يسجل للسنباطي مع أنه جاء إلى تلحين القصيدة بعد عبد الوهاب بعشر سنوات على الأقل، عندما كان هذا الأخير قد وصل في تطوير تلحين القصيدة إلى رائعته الخالدة أعجبت بي (1935)، فإن السنباطي سرعان ما بدأ في تلحين القصيدة بداية شاهقة بلحنه الخالد لقصيدة شوقي سلوا كؤوس الطلا. منذ تلك القصيدة التي تعتبر الأولى من ألحانه لأم كلثوم، وحتى من أجل عينيك عشقت الهوى (آخر قصيدة لحنها لها)، فقد اختط السنباطي في تلحين القصيدة العربية خطاً متمايزاً عن ذلك الذي أطلقه وسلكه محمد عبد الوهاب، إذ إنه ظل من البداية إلى النهاية عميق الارتباط بالجذور التقليدية لتلحين القصيدة العربية، يمارس داخل تلك التقاليد كل التجديدات التي أبدعها، وتجلت أكثر ما تجلت في شوامخ قصائده الدينية لأم كلثوم (سلوا قلبي ونهج البردة) بشكل خاص، إلى جانب رائعتيه رباعيات الخيام والأطلال. لعل صرامة ورصانة الشخصية الإنسانية لرياض السنباطي، هي التي انعكست على أسلوبه الصارم وشديد الرصانة، في تطوير تلحين القصيدة العربية، حتى إن بعض هذه القصائد المطولة تبدو في ألحانه شبيهة بالهندسة المعمارية لقصور العرب في الأندلس. والحقيقة أنه ليس من باب المبالغة أن نطلق على رياض السنباطي لقب راهب الموسيقى العربية. فلقد عاش عمره منذ طفولته المبكرة وحتى رحيله، منصرفاً عن كل شؤون الحياة وشجونها، متفرغاً لفنه كأنه راهب يتعبد في محرابه. فلم يكن يعرف عن السنباطي رغبته أو سعيه إلى توسيع علاقاته العامة بالصحافة والإعلام، بل كان على العكس من ذلك زاهداً في كل أنواع هذه العلاقات التي تغري الفنان عادة، وتسبغ عليه من نعمها. كما أنه كان معروفاً عنه ترفعه عن السعي وراء الربح المادي من فنه، وعاش حياته ببساطة وبعيداً عن الأضواء، حتى في عقدي الخمسينات والستينات حين كان اسمه في موقع أساسي في مقدمة عباقرة الموسيقى العربية التاريخيين. ولقد عرف عن السنباطي أن عبقريته الموسيقية ظهرت في وقت مبكر من حياته، حتى ذهب إلى المعهد الموسيقي لدراسة العزف على آلة العود. فلما استمع أعضاء اللجنة الفاحصة إلى عزفه، قرروا تعيينيه أستاذاً لآلة العود، لا تلميذاً. الحقيقة أن التاريخ الموسيقي لرياض السنباطي يتضمن خطاً آخر، أكثر رومانسية وحداثة، مارسه في أغنياته بصوته (فجر، وأشواق، وعلى عودي)، وفي ألحانه لحناجر مثل عبد الغني السيد ومحمد عبد المطلب وعبد الحليم حافظ، وفايزة أحمد ووردة وسواهم الكثير.. لكن اسمه بقي رغم ذلك مرتبطاً باسم أم كلثوم، حتى إنه رحل عن هذه الدنيا بعدها بست سنوات فقط في شهر سبتمبر/ أيلول، بعد أن حقق من خلال حنجرتها أعظم إنجازاته في تطوير الموسيقى العربية المعاصرة.
مشاركة :