كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مثالاً في الرقي والانضباط السلوكي والأخلاقي، وقد تجلى ذلك بوضوح في احترامه حق الطريق، وفي سلوكياته الراقية المتحضرة عليه، ولذلك حرص على نشر ثقافة احترام الطريق العام واحترام حقوق كل من يسير عليه، كما حرص على ضبط سلوك المسلم في تعامله مع المنافع العامة ليواجه ما يعتري البعض من سلوك مرفوض نتيجة عدم وعيه بحقوق الآخرين. وإلى جانب السلوك النبوي الكريم على الطريق العام والذي يجسد قمة الرقي الأخلاقي تعددت وتنوعت توجيهاته الكريمة التي تجسد القيم والأخلاقيات الرفيعة، وبالتأكيد كل من يتأدب بأدب وأخلاق الرسول ويحرص على الالتزام بها يحظى باحترام الآخرين وتقديرهم وتستقيم حياته وعلاقاته معهم، ويبدو في نظرهم إنساناً متحضراً يؤدي رسالته في الحياة، ويسهم بفاعلية في مواجهة كل التجاوزات الأخلاقية عملاً بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. يقول عالم السنة النبوية، د. إسماعيل الدفتار، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر: الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بنائه الأخلاقي للإنسان جاء بكل ما هو راق ومتحضر، وسما بأخلاق أتباعه فوق كل الصغائر، ورسم للإنسان حياة راقية تغلفها كل المعاني الإنسانية.. ومن هنا كان سلوكه في الطريق العام راقياً متحضراً يجسد الأخلاق والقيم الإسلامية الرفيعة ويعلم الأجيال الجديدة من أبناء المسلمين أن رقيهم وتحضرهم وإنسانيتهم العالية تكمن في انضباط سلوكهم، وبعدهم عن كل صور الانفلات الأخلاقي والبلطجة السلوكية التي نراها ونعانيها الآن في شوارعنا والتي تأتي نتيجة غياب القدوة واختفاء قيم وأخلاق الإسلام، وتجاهل توجيهات رسول الله صلى الله عليه وسلم. تهذيب السلوك ويضيف: وآداب الطريق التي علمنا إياها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تستهدف تهذيب سلوك الإنسان والارتقاء بمشاعره وعواطفه وإحساسه بحقوق الآخرين، فالطريق العام منفعة عامة وليس ملكاً لأحد، ولكل الناس حقوق فيه، وهو ليس ملكاً للإنسان لكي يحتكره لنفسه أو يمارس عليه ما يشاء من السلوكيات المرفوضة.. لذلك كان من أبرز صور احترام مشاعر الآخرين والحفاظ على النظام العام التي نشرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسلوكه المنضبط وأخلاقه الرفيعة ضبط سلوكيات الإنسان في الطريق العام، فعندما يضبط كل إنسان سلوكه وتصرفاته بالقيم والضوابط والأخلاقيات الإسلامية ترتقي العلاقة بين كل أفراد المجتمع، ويعم الود والتفاهم والتعاون بين الجميع، وتختفي في الوقت نفسه كل صور النزاع والتشاحن والخلاف بين خلق الله.. فالالتزام بهذه الآداب وتلك الأخلاقيات يؤدي حتماً إلى اختفاء كل الصور الشاذة والغريبة وكل السلوكيات المرفوضة أخلاقياً، والتي نشاهد الكثير منها يومياً في شوارعنا وأماكن تجمعاتنا ومتاجرنا وأنديتنا، فالمسلم الحق يحترم آداب الطريق وأخلاقيات السلوك العام ويضبط سلوكه بالأدب الجم، والخلق الرفيع، والذوق العام وينطبق عليه قول الحق سبحانه: وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً. مشية النبي ولكن.. كيف كان سلوك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الطريق العام؟ يقول د. الدفتار: لم يكن الرسول عليه الصلاة والسلام - وهو القدوة والمثل في كل شيء - يمشي على الأرض متكبراً مستعرضاً قوته ولم يكن يقبل المواكب التي نراها الآن لكبار وصغار المسؤولين، بل كان قمة في التواضع يمشي مشياً ليناً رقيقاً، لا تكلف فيه ولا خيلاء ولا تصنع فيه ولا ضعف، وإنما مشية تكسوها القوة والجد، والوقار والسكينة.. لم يكن يغضب أو ينفعل لسلوك مرفوض أو تجاوز يراه ولا يرد على السفاهة بسفاهة، ولا يستجيب للاستفزاز، وينطبق عليه وصف الحق سبحانه: وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً. وهذا هو شأن المسلم المؤدب المحترم، فهو لا يرد على السفهاء، وإذا ما قابله جاهل بجهله، أو خاطبه سفيه بسوء أدب، لا يتعامل معه بالمثل، بل يقابله بالقول الطيب، والنصيحة المخلصة، ولذلك يستطيع المسلم الذي يسير على هدي رسول الله ويتخلق بأخلاقه الفاضلة أن يتجاوز أذى الآخرين، وأن يجمعهم حوله، وأن يؤثر فيهم بأخلاقه الطيبة وسلوكه الراقي، لأنه أصبح قدوة بتصرفه المتحضر، واتزانه النفسي الذي يقدره له الجميع. ومن صفات المسلم الحق الذي يفهم دينه فهماً جيداً ويتخلق بأخلاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يشغل نفسه بمجالس السوء وأن يتدخل بالكلمة الطيبة لإنهاء ما يراه من مشاجرات ونزاعات هنا وهناك من دون أن يشتبك مع أحد بحرصه على أن يقول كلمة الحق وعدم الشهادة بالزور، وإذا مر بمجالس اللغو انصرف عنها، وهو بحرصه على هذا السلوك الراقي ينطبق عليه قول الحق سبحانه: والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراماً. آداب راقية والآداب التي أشاعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الطريق العام من خلال توجيهاته ووصاياه الكريمة كثيرة ومتنوعة، ويلخصها الداعية د. عمرو خالد في جملة الآداب والأخلاقيات التالية: - غض البصر عن المحرمات، وعن مراقبة المارين من الناس في أعمالهم أو تصرفاتهم أو لباسهم.. وهذا خلق إسلامي كريم يؤكد تربية الإسلام لأهله على الفضائل، ولو التزم شبابنا اليوم بهذا السلوك النبيل لاختفت من شوارعنا كل صور المعاكسات والتحرش بالنساء، وكانت الشوارع والطرقات آمنة، كما يريد لها الإسلام على بناتنا ونسائنا.. وهنا ينبغي أن تحرص النساء على مكارم الأخلاق في ملابسهن وسلوكهن العام في الشوارع، فالسفور الفاضح والانفلات السلوكي لكثير من الفتيات والنساء في الشوارع والطرقات والمتاجر والأندية والمواصلات العامة يجر لهن وللمجتمع كله الكثير من المفاسد والمساوئ الأخلاقية. - عدم الجلوس والتسكع على الطريق العام.. والتوجيه النبوي الكريم هنا واضح كل الوضوح فقد قال - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم لأصحابه: إياكم والجلوس على الطرقات، فقالوا: ما لنا بد، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها.. فقال لهم صلى الله عليه وسلم: فإذا أبيتم إلا المجالس، فأعطوا الطريق حقه.. قالوا: وما حق الطريق؟ قال صلى الله عليه وسلم: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر. احترام حقوق الآخرين ويقول د. الدفتار: الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهذا الحديث الشريف يرسخ في نفوس المسلمين جميعاً قيمة احترام حقوق الآخرين، فالطريق مرفق عام، وهو ملك للناس جميعاً، وليس ملكاً لأحد لكي يتصرف عليه كيفما يشاء ويسبب أذى للآخرين، ومن صور الأذى التي أشار إليها هنا التلصص على النساء والتركيز على عوراتهن، وعدم احترام مشاعر الآخرين بتجاهل رد السلام عليهم.. فضلاً عن عدم القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما أكثر ما يراه المسلم من صور انفلات سلوكي وأخلاقي تفرض عليه أن يكون إيجابياً وليس سلبياً، وأن يقوم بالمساهمة بفض ما يراه من مشاحنات ومشاجرات بين الناس، وأن يحرص في ذلك على التخلق بخلق الرسول بالوقوف إلى جانب الحق ومناصرة العدل وعدم ظلم الضعيف وكف الأذى عنه بقدر ما يستطيع، والبعد عن مناصرة من يعرفه أو يجلس إلى جواره في سيارته، وأن يتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً.. فقال رجل: يا رسول الله أنصره إذ كان مظلوماً، أفرأيت إذا كان ظالماً كيف أنصره؟! قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره. صورة مسيئة ويقول د. عبد المقصود باشا، أستاذ الحضارة الإسلامية بجامعة الأزهر: لقد تعددت صور الإساءة للطريق العام في بلادنا العربية والإسلامية حيث أساء الكثيرون بسبب تخليهم عن القيم والأخلاق الإسلامية التعامل معه.. فمن الناس من يعتبره ملكاً خاصاً به ويفعل به ما يحلو له من سلوك شاذ أو عدوان على حقوق الآخرين فيه.. ومن الناس من يتعامل مع الطريق العام على أنه لا صاحب له فيلقي فيه بالقمامة والمخلفات ويستغله أسوأ استغلال.. وهذه الصور وغيرها من صور الإساءة إلى الطريق العام أفسدت الذوق العام في كثير من بلاد المسلمين ولذلك أصبحت كثير من طرقنا العامة غير آمنة لا أمنياً ولا سلوكياً، ولا أخلاقياً. ويؤكد د. باشا أن المسلم ليس مطالباً بالتعامل الراقي مع الطريق العام فحسب.. بل هو مطالب بإماطة - أي رفع - الأذى عنه، فواجب المسلم أن يميط الأذى كالحجارة أو الأسلاك أو الزجاج أو غيرها فيبعدها عن الطريق وقد أخبرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن هذا السلوك الراقي المتحضر - إماطة الأذى عن الطريق - لا يعبر عن رقي وتحضر صاحبه فحسب، بل يجلب له رضا الله عز وجل وثوابه فقال إماطة الأذى عن الطريق صدقة. وهنا يتدخل الداعية عمرو خالد ليعلن استياءه واستنكاره لسلوك غير راق وغير حضاري نراه على طرقنا العامة ويعد من الصور الشاذة والغريبة الشائعة في بلادنا العربية وهي وقوف رجل على جانب الطريق ليتبول.. ويقول: من الصور الكريهة أيضاً في كثير من شوارعنا أن تجد مجموعات من الشباب تقف أو تجلس على جانبي الطريق أو في وسطه لتطارد كل المارين والمارات بنظراتها الفاحصة وألسنتها الزالفة وكلماتها المنفلتة، ومزاحها الماسخ، وكل هذا - للأسف - يحدث تحت شعارات خادعة ومضللة يرددها هؤلاء المنفلتون الذين يرون في انفلاتهم السلوكي استمتاعاً بالحرية، وهم لا يدركون أنهم بذلك يسيئون لأنفسهم ولأسرهم وكل الذين تولوا تربيتهم والإنفاق عليهم. أيضا من السلوكيات المرفوضة على الطريق العام - كما يقول الداعية عمرو خالد - إساءة استخدام الطريق وعدم الالتزام بالقواعد والقوانين المنظمة لاستخدام السيارات، فتجد شاباً تبدو عليه مظاهر التمدن والتحضر يستخدم منبه السيارة بشكل مزعج ومن دون داع وتجد آخر يترك سيارته وسط الطريق العام في تحد صارخ لحقوق الآخرين في السير من دون معوقات، وتجد ثالثاً يفتح زجاج سيارته ليلقي بكيس قمامة أو فضلات طعام في الطريق العام.. كل هذه سلوكيات لا يقرها ديننا ولا تسمح بها الأخلاق الفاضلة التي تعلمناها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخيراً.. ما أحوجنا اليوم إلى الأخلاق الإسلامية الفاضلة التي علمنا إياها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتي لا تسمح لإنسان مهما كان وضعه في المجتمع بأن يحتكر الطريق لنفسه ولا أن يستخدمه وفق هواه، ولا أن يتصرف وهو يسير عليه بعشوائية، ولا أن يترك سيارته في عرض الطريق ليعوق حركته ويعطل مصالح الناس كما نرى الآن. إننا جميعاً في حاجة إلى التخلق بأخلاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى تعود للطريق العام حرمته ويستفيد منه الجميع من دون مشاجرات ومشاحنات، وأن يأخذ كل إنسان حقه فيه من دون بلطجة أو عنف يرفضه الإسلام ويدينه.
مشاركة :