إن تفشي الجريمة لعله يرجع إلى فوضى السوق وحالة الغلاء، ليس في بلد بعينها وإنما في جل البلاد العربية، ولنا فيما يحدث في لبنان خير دليل إذ أصبح الأهالي يأتون إلى مصر لشراء حليب الأطفال.. فمن هم آكلو لحوم البشر هؤلاء وإلى أي بلد ينتمون؟ حينما وُجد التاريخ ودونه المدونون، لم يكن للقراءة والاطلاع والثقافة فحسب، بل إلى تدبره والرجوع إليه وقت أن تكون هناك حتمية تاريخية. وفي تدبر ما يحدث في زماننا هذا، نجد أن الحروب والغلاء والبطالة وكثير من الشكوى بين أفراد المجتمعات العربية، وإن باتت في بداياتها تنتج شتى أنواع الخلل الاجتماعي والقيَّمي، حتى وإن لم تشتد بعد. ولذلك نبحث فيما وراء ما ينتشر من جريمة ليس على مستوى بلد بعينه، وإنما في بعض البلاد والتي تظهر بوادرها بعد هذه الحروب الطاحنة في جل وطننا العربي؛ ومن أهم هذه الجرائم المنتشرة هو خطف الأطفال، إما لاستخدامهم في التسول، أو لطلب فدية بمبالغ باهظة لا يتحملها الآباء، أو بيعهم في السوق لعصابات تستفيد منهم بأي حال من الأحوال! فهل يرجع ذلك للبطون الخاوية والحاجة الملحة في العيش الذي بات في ظل السوق العالمي الحر أمراً يصعب التغلب عليه؟ أم تطلعات للثراء الذي يرى كل واحد أنه الأولى به والأحق؟! وهو خلل اجتماعي بلا شك، ونوع آخر من آكلي لحوم البشر. وفي التاريخ لنا عِبر سطرها لنا لنراجع أمور الناس حينما تشتد أزماتهم.. وفي كتاب المقريزي "اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء" وهو يتحدث عن الشدة المستنصرية والتي امتدت لسبع سنوات متصلة من (457هـ = 1065م) إلى سنة (464 = 1071م) وعُرفت هذه المجاعة بـ(الشدة المستنصرية) أو الشدة العظمى فيقول: "ظهر الغلاء واشتد جوع الناس لقلة الأقوات في الأعمال وكثرة الفساد فأكل الناس الجيفة والميتات ووقفوا في الطرقات فقتلوا من ظفروا به وبيعت البيضة من بيض الدجاج بعشرة قراريط وبلغت رواية الماء ديناراً وبيع دار ثمنها تسع مئة دينار بتسعين ديناراً اشترى بها دون تليس دقيق، وعم مع الغلاء وباء شديد وشمل الخوف من العسكرية وفساد العبيد فانقطعت الطرقات براً وبحراً إلا بالخفارة الكبيرة مع ركوب الغرر وبيع رغيف من الخبز زنته رطل في زقاق القناديل كما تباع التحف في الطرق والنداء: خراج! خراج! فبلغ أربعة عشر درهماً وبيع أردب قمح بثمانين ديناراً. ثم عدم ذلك كله، وأكلت الكلاب والقطط، فبيع كلب ليؤكل بخمسة دنانير". ويرد بعض المؤرخين ذلك إلى أن المستنصر بالله، استمع لرأي أحد مستشاريه بأن يهتم بالذهب والحرير ويهمل الصوامع، فكان له ذلك فيما أهمل صوامع تخزين الحبوب، وحينما شح النهر بمائه وجفت الأرض لم يجد هؤلاء الناس قوت يومهم مما اضطرهم إلى أعمال شديدة الجرم، من قتل ونهب حتى أنها -بحسب كتب التاريخ- انتشرت صناعة الخطاطيف (الكلاليب) وكان الناس تقف في الشرفات لإلقائها على روؤس المارة لقتلهم ثم أكلهم. نوع من آكلي لحوم البشر! هكذا دونت كتب التاريخ أحوال الناس حينما اشتدت بهم الأزمة وللشدة المستنصرية حكايات يشيب لها الولدان في ظل الخليفة المستنصر بالله الذي امتد حكمة لمدة ستين عاماً! ولذلك نتأمل حال الشعوب العربية التي تمتد بها الحروب والنزاعات طيلة ما يقرب من عشر سنوات؛ وهي لاتزال صامدة في وجه هذه الحروب الطاحنة؛ من قتل، وموت، ودمار، وإرهاب؛ فالنتائج قد تطفو على السطح لسنين عديدة قادمة، والعالم يتباهى بالسوق الحرة واكتشافات واختراعات وغزو فضاء، بينما الوطن العربي يقع تحت نير هذه المتغيرات الخطيرة. وفي الآونة الأخيرة تنتشر عصابات اختطاف الأطفال فنرى أن الرجل اختطف طفل من بين يدي أمه ويقذف به في سيارته، وحينما تعلقت الأم بالسيارة تم سحلها! ولكنه يختلف الأمر هنا؛ حيث شدة القبضة الأمنية، واستقرار البلاد، وصحوة رجال الشرطة وحنكتهم تم استرجاع الطفل في غضون يومين اثنين. وعلى الجانب الآخر نرى مركباً يغرق في البحر به عشرات الهاربين من سواحل ليبيا في هجرة للغرب غير شرعية مقابل أموال دُفعت لآكلي لحوم البشر بشكل مختلف. ولذلك نقول إن تفشي الجريمة لعله يرجع إلى فوضى السوق وحالة الغلاء، ليس في بلد بعينها وإنما في جل البلاد العربية، ولنا فيما يحدث في لبنان خير دليل إذ أصبح الأهالي يأتون إلى مصر لشراء حليب الأطفال.. فمن هم آكلو لحوم البشر هؤلاء وإلى أي بلد ينتمون؟ نحن لا نبرر لهذه الجرائم أو تلك، ولكننا نرجئ ذلك إلى تدني القيم واختلال الوازع الديني وعدم القدرة على مواجهة ما يحيق بوطننا العربي الحبيب من مخاطر وحروب. ولذلك كان يجب على المجتمع الدولى الأخذ بجدية واضحة فيما يجري من حروب وصراعات، فإذا ما سَلَّمنا أن العالم كله بات قرية واحدة -على زعم العولمة- فسوف تطاله نار هذا الصلف العالمي وبلا أدنى شك!
مشاركة :