العام، 1936، والفاشست الجبناء يهرولون فى جنبات المدينة مثل ضباع تبحث عن فرائسها. يطلقون النار، ويراهنون على مهارة أكثر الحاصدين للأرواح!! غرناطة ميراث "لوركا".. "فيدريكو جارثيا لوركا" وكنيته الشاعر، الذي كان يعرف من أي تراثات العالم جاء!! وان موهبته الشعرية، الاستثنائية، تكونت من تلك الأغنيات الأندلسية الشعبية، ومن زفرة الحنين تلك، الحنين اليائس للعربي الأخير عند صخرة الرحيل. فى هذا العام 1936، عبر شوارع غرناطة التى عشقها لحد الفناء فيها، وجسدها فى شعره كملاذ أخير. يجر"لوركا" على وجهه، يسحبه الفاشست ليقف أمام فرقة ضرب النار، ليصدر أمر تنفيذ الإعدام من قبل الحاكم المدني "خوسيه فالديز غوزمان"، لتخترق رصاصات خؤونة قلب الشاعر بتهمة كونه من الجمهوريين. لقد تم الأمر، هناك على التلال الغربية من غرناطة التى عشقها، ومما يحكى عن هذا الاغتيال أن جسد الشاعر لم يعثر عليه أبدا، ولم يعرف أحد حتى الآن أين مثواه الأخير. ينشد لوركا: "وعرفت أننى قتلت وبحثوا عن جثتي فى المقاهي والمدافن والكنائس فتحوا البراميل والخزائن سرقوا ثلاث جثث ونزعوا أسنانها الذهبية ولكنهم لم يجدوني قط " لقد تم اغتيال الشاعر بحزم!! لا لأنه يملك سلطة سياسية، أو إرادة المقاومة، ولكن اغتالوه لأنه يمتلك موهبة الشعر، وسلطة الغناء، ومقام الشاعر. لقد أبدع "لوركا" كل تلك القصائد الرفيعة، وأنتج من الشعر ما جسد أحلام الفقراء، الذين يهيمون على وجوههم فى سهول الأندلس القديمة، وكتب دواوينه "قصائد أولى"، "الأعماق العميقة"، "أغنيات أولى". منذ الثامنة من عمره وحتى اغتياله، كان لوركا.. يمارس الفنون بروح الشاعر المحلقة المنتمي لأهله الأندلسيين، وكان عازفاً ذائع الصيت لآله البيانو، ومنظما شهيرا لعزف الفنون والغناء فى ربوع أسبانيا كلها. كما كان"لوركا" ناثرا من أصحاب الأساليب، ذا إحساس فطرى باللغة التي يكتب بها، يتميز بخبرة الشاعر الذي يتقن تراثه، ويستعين بذلك الخيال للطقوس الغجرية، ومربعات الغناء القادمة من صحراء العرب. وأيضاً كتب "لوركا" العديد من مسرحياته الخالدة: عرس الدم.. يرما. الجمهور. بيت برنارد البا. لغة الزهور، وغيرها فى مسرحيته "عرس الدم". تصرخ الأم الثكلى "ابعدي أيامك عن وجهي فإن أياما رهيبة سوف تأتي". عبر فضاء غرناطي تقع حوادث "عرس الدم".. التقاليد تستمد كينونتها من عنف التراث.. والعواطف حرة مثل ريح الشمال.. والشرف منطقة حرام الاقتراب منها، لا يمحوه إلا الدم، والحوادث حكايات موشومة على شغاف ذاكرة لا ترضى النسيان. يوم عرس الفتى، تأمل الأم في ابنها أن يأتي بالبنين والبنات، والغناء تحت قمر قروي مضمخ بشعر "لوركا" الذي يترصده قدر غامض في سره، والأم يتناهى لعلمها أن العروس كانت مخطوبة لآخر يطاردها حتى تهرب معه ليلة زفافها تلك. يشتد الصراع بين الخطيب والابن العريس، ويقتل الاثنان في صراع دموي. الأم في المشهد الأخير تنعى فرحتها التى لم تتم، والعروس بين السهل والجبل تتردد صرخات المحبين، والدم يلطخ الوجوه والمكان وثوب العرس وشيبة الأم "فوق أبراج الكنيسة الصفراء، تسكت النواقيس، والريح تشكل من الغبار حيازيم فضية ". هكذا ينشد "لوركا" أناشيده لتنتهي التراجيديا حيث قدرها المحتوم!! *** فى شارع ضيق، مثل شق ثعبان، في حي الوراق بمصر/ القاهرة تقع كنيسة العذراء مريم البتول، أم عيسي عليه السلام. كنيسة قديمة، تجاور مسجداً من عمرها، مقامان في سلام الله، لهما حق التجاور، وأخوّة الانتماء، ولكل دينه، ونبيه، ولكل من له نبي يصلى عليه. مثل المسلمين بالضبط، يقيم الأقباط أفراحهم، فى أمكنة العبادة، تبركاً لوجهه الكريم، ودعوة أن تصان حياة الآدمي ويستمر نسله. كهارب ولمبات نيون ملونة، وأناشيد وأغنيات على الواجهات تلعلع بمكبر الصوت الذي يأتي بآخر الدنيا من بشر يعشقون الفرح. يخترق الزحمة موتوسيكل، يفجر ضجيجه فرحة الناس. يمتطيه مسلحان، ملثمان، ما أن يقتربا من الفرح حتى يفتحا النار من رشاش غادر، من غير تمييز. يغطي الدم وجه الكنيسة وفستان العرس، حاصداً أرواحاً أربعة.. أبرياء في زمن ظالم... تماما مثلما جرت به المقادير فى بلاد "لوركا". طفلتان جاءتا من القرية القريبة "شنبارى"، "مريم أشرف" 8 سنوات، و"مريم نبيل" 12 سنة.. بنتان تسعيان للفرح القليل في حياتهما، والصراخ على رؤوس الموتى.. وصوت "لوركا" يأتي من الذاكرة. هناك أرواح لها نجوم زرقاء بين أوراق الزمن وزوايا طاهرة تحتفظ بضجيج قديم بين الحنين والأحلام.
مشاركة :