استمع د. نسيم الخوري راج مصطلح النهايات في الفكر العالمي منذ أن بدأت البشرية تتقدّم نحو الألفيّة الثالثة وراح القرن الحادي والعشرون يتّخذ تسمية قرن الدين. وصار من المتيسّر قراءة الكثير من المؤلفات الواسعة الانتشار والأبحاث والأدبيات التي تقول بنهاية التاريخ وانهيار الإيديولوجيات والأفكار اليسارية وزوال القوميات مقابل يقظة الأديان والمذاهب الدينية أو صحوتها وصراعاتها، وخصوصاً في البلدان العربيّة التي سبق لها أن استلهمت روح الفكر القومي من الغرب واعتنقته بفجاجته، إن لم نقل استوردته، وهي لم تكن قد انخرطت بعد أو حتّى خبرت الثورات الصناعية والتقنية ومفاعيلها الحضارية. ومع حلول عصر العولمة والانفتاح الشامل، طغى الفكر القائل بتراجع أو انتفاء سيادة الدول بمعناها التقليدي إلى حدود المغالاة المبشّرة بنهاية العالم وسقوط الحدود والدول وحتّى الإنسان بانتماءاته الضيّقة الإيديولوجية أو الدينية. كان من الطبيعي أن يكون لهذا المناخ الفكري والعملي القوي والمتعدّد المعاني والصيغ والتسميات والوقع تأثيراته الكبرى في التوجّهات الفكرية والسياسية في العالم كما في البلدان العربية والإسلامية. وهنا مفارقتان: المفارقة الأولى التي فرضها مناخ النهايات ومشتقاته شيوعه وحصوله والمغالاة فيه إلى حدود انهيار الكثير من بلدان الشرق الأوسط والمجتمعات والأنظمة المرتكزة إلى الأحزاب القومية والإسلام، في ثقافاتها ودساتيرها، ليس على المستوى النظري والتحليلي وحسب، وإنّما بصفتها مجتمعات بارزة في معضلات من الاختلاط المعقّد بين السلطات الدينية والعقلية والأسطورية. وقد دفعت تلك المعضلات إلى اختلاط من نوعٍ آخر أكثر خطورة هو شيوع ثقافة تبرير الفشل المزمن والإخفاق لا بل تقبّل الانهيارات بإعادة إطلاق فكرة المؤامرة والاستنتاجات القطعية الكثيرة التي أسقطت حاجات الشعوب العربية وصدقيتها المزمنة في التغيير والتبديل التي أفرزت بعض مظاهرها وقائع ثورات الربيع العربي وأحداثها ونتائجها الكارثية على العرب والمسلمين. وعلى الرغم من التشظّيات الداخلية الفظيعة السياسية والمذهبية، سرعان ما تمّ رسم هذه الرغبات والحركات في مجرى الخط الدموي الممتدّ من العراق إلى تونس مروراً بمصر وليبيا وسوريا ولبنان واليمن وغيرها الزاخربالوحوش ذوي الخدود الحمراء وكأنّها مستجدّات دبرت في الخارج لتنمو وتأخذ مداها المتوسّع تحت عنوان ما عرف بالفوضى الخلاّقة التي أفرغت من معانيها لكثرة استعمالاتها وبدت في تزاحمٍ العظمة الدولية والإحراجات الإقليمية المتنوّعة والمتفشّية. المفارقة الثانية أنّ هذا التفكير لا الفكر المسكون بالمؤامرات والمخططات، قد يستمدّ دعائمه أو تبريره وشعبيته، من مقولات لا تنتهي في مفاعيلها ترتبط بالعلاقات التاريخية المعقّدة والمزمنة بين الغرب والعرب والمسلمين وبينهما نكبة إسرائيل الدائمة التجدّد والتحوّلات الغامضة التي أحدثها إطلاق فكرة الدولة اليهودية لتبلغ ذروتها لدى بعض السياسيين وفي طليعتهم، مثلاً، رونالد ريغان الرئيس الأمريكي الأسبق للدولة العظمى عندما قال إنّ نهاية العالم المحكوم بالشيطان قادمة حتماً. أو قوله مخاطباً جماعةً من اليهود: حينما أتطلّع إلى نبوءاتكم القديمة في العهد القديم أجد نفسي متسائلاً عمّا إذا كنّا نحن مَن سيرى نهاية العالم واقعاً فعلاً... إنها قطعاً نهاية تنطبق على زماننا الحاضر والأمثلة متعدّدة في هذا المجال. وهنا تشتدّ وطأة هذه المفارقة الثانية ليس على مستوى المضامين الهائلة المغمّسة بالنهايات التي يستخدمها أهل السلطة غالباً لأغراضٍ ضغوط آنية مصلحيّة، بل على مستويات انبعاثها في حبر بعض الغرب وأدبياته، مع أنّنا كنا نتصوّر أنّ الفكر قد هاجر نهائيّاً في الغرب من الدين إلى الإنسان، وما عاد يألف مثل هذه التفسيرات التي تحمل التنبؤات أكثر ممّا تحمل من الوقائع والتحليلات المقبولة. وظهرت الكتابة والواقع العربيّان كما النضال المرتبك مسائل ومحاولات ممكنة وضرورية وقد تستمرّ في التاريخ، لكنها بدت غير جديرة بالتغيير أو بالفعل بل بردود الفعل المتناقضة على إيقاعات أحداث "ثورات الخراب العربي". وهنا برزت الفروقات بين الدول المرشّحة للتغيير وكأنّها كائنات سياسية لا تموت. وبانت الشعوب وكأنّها مجتمعات محض أخلاقية، مع أنّها وجدت كشعوب قبل أن توجد الدول والأنظمة، إلاّ أنّها بقيت أسيرة تلك الدول وغيرها من الدول البعيدة، وحافلة بالمعتقدات والتباينات حول المقدس والخير والشر ونسق القيم والأعراف، ونجدها ظاهرة في ردود فعل تجمع القبائل والعائلات والدين والتركيبات الطبقية والطائفية المتكلّسة والعادات اليومية وأساليب الحياة المختلفة وتنبش تراثاتها المتناقضة. بدا الصراع والتشظيات والحروب والثورات العربية مظاهر ممكنة أيضاً وقد تستقرّ قروناً، إذا اقتضى الأمر، بصفتها الجديرة بتسهيل الخرائب من جهة، ومفسحة المجال الواسع لامتصاص الثروات والثورات من جهة مقابلة. قد يمكن تفسير ذلك بأنّ الثورات قد آلت بالإجمال إلى شيوع التطرّف الذي أنتج جاذبيّة ملحوظة بالإسلام ليس على مستوى ردود فعل شرائح المسلمين في البلاد الإسلامية، بل على مستوى ردود فعل هؤلاء تجاه جاذبيته العالمية التي راحت تخبو، بعدما بات ممكناً اختراق الإسلام بالقيم والأفكار الغربية من ناحية، وبالسخط والتهديد الذي راح يقوى في بعض عواصم الغرب حيال المسلمين من ناحية ثانية. برز همّ البحث عن الذات الوطنية والقومية مجدداً محكوماً بمناخ النهايات غير المحسومة التي راحت تجدّد الأدبيات والأفكار البالية المتكرّرة بين العرب والمسلمين أو بين المسلمين أنفسهم بمذاهبهم ومدارسهم واجتهاداتهم المتنوّعة المختلفة، وفي ضوء حظوتهم بكنوز الإيمان بمعنى الدين وكنوز الأرض بمعنى النفط والغاز. لكن الغرابة التاريخية أو معضلة الخروج ممّا نحن فيه، وضعتنا سلفاً، وفي سنوات خمس، وكأنّنا أمام اثنين لم ولن يفهما الإسلام بعد وأعني بهما الغرب أوّلاً والكثير من المسلمين ثانياً وخصوصاً تلك الفصائل الإسلاميّة المتأصّلة والمستوردة والمقيمة في الماضي بتشدّدها وكأنّها جاهزة لخدمة الغرب في حروبه الخارجية المثمرة عبر حروبهم الداخلية الموكولة بتدمير بلادنا باسم الدين، سواء أكانت هذه الفصائل من نتاج الثقافة الإسلامية أو غربية رفضت الغرب أو تمّ تصديرها من الخارج ودفعها نحو أرض العرب والمسلمين لتشغل فكر العالم تحت عنوان الإرهاب. وهنا سؤال يحتاج إلى التفسير والتأمّل: لماذا يرتجف العرب والمسلمون أمام مصطلح النهايات؟ drnassim@hotmail.com
مشاركة :