ربما يكون أهم ما يميز الهبة الشعبية الفلسطينية الراهنة أنها جاءت عفوية وبلا مرجعيات ولا عناوين محددة يمكن الضغط عليها لوقفها أو حرفها عن مسارها، وهي وإن حملت فعالياتها وسلوكها وأدواتها طابعاً فردياً أكثر منه جماعياً، وطرحت أهدافاً محددة بوقف جرائم الاحتلال ومستوطنيه وانتهاكاتهم المتكررة للمسجد الأقصى، إلا أنها انتشرت وتمكنت بسرعة قياسية من توحيد الفلسطينيين في كل الوطن المحتل، واستطاعت، في ذات الوقت، أن تبث الرعب في صفوف الاحتلال ومستوطنيه، وأن تستنفر أجهزته الأمنية وأدواته القمعية من النهر إلى البحر. لكن السؤال الذي يفرض نفسه هو إلى أين ستمضي هذه الهبة الجماهيرية، وهل ستتحول إلى انتفاضة شاملة، وما هي الأهداف التي تسعى لتحقيقها؟ لن نذهب بعيداً في تحليل أسبابها ومنطلقاتها، لكننا نكتفي بالقول إن وجود الاحتلال بحد ذاته، وعربدة جنوده ومستوطنيه وإجرامهم الوحشي، من إحراق الفلسطينيين وهم أحياء إلى الاقتحامات اليومية وتدنيس المسجد الأقصى ومحاولات تقسيمه زمانياً ومكانياً، كانت الشرارة المباشرة التي فجرت الغضب الفلسطيني المتراكم للرد على تلك الجرائم. ثمة أسباب أخرى كثيرة بالطبع أسهمت في إخراج المارد من القمقم، في مقدمتها نشوء جيل جديد من الشباب الفلسطيني بعد اتفاق أوسلو، يرفض هذا الاتفاق، بل يعتبره سبباً أساسياً في مضاعفة الاستيطان وازدياد الانتهاكات والاعتداءات والجرائم الصهيونية، من دون أي رادع.. مع وجود هذا الجيل من الشباب الذي كفر بالحديث عن التسوية ومفاوضاتها، ويرفض العيش في كنف الاحتلال ويؤمن بقوة بعدالة قضيته وحقه في أرضه ووطنه وحريته واستقلاله، فقد توفرت لديه كل الأسباب لانتزاع حقه بيده. وهذه واحدة من مفاجآت هذه الهبة الشعبية، إذ خلافاً للاعتقاد السائد بأن هذا الجيل من الشباب قد تم تدجينه، وحتى تسميته بجيل الفيس بوك بفعل حالة الرخاء أو الاسترخاء التي حاولت السلطة الفلسطينية تعميمها بعد اتفاق أوسلو، فإذا بهذا الجيل نفسه يشعل غضباً فلسطينياً يصعب احتواؤه، سلاحه اللحم الحي وما امتلكت يداه من أدوات بسيطة كالسكاكين وحجارة الأرض، وإبداعات لا تنضب من عمليات دهس وطعن وحتى عمليات استشهادية، وقبل ذلك شجاعة غير مسبوقة في انتزاع سلاح العدو ومقاتلته به، وكان سلاحه الأكثر فتكاً ورابطه الجامع هو مواقع التواصل الاجتماعي. واللافت هنا هو مشاركة الفلسطينيات بكثافة في هذه الهبة مع رفضهن الصريح للانخراط تحت لافتة أي من الفصائل الفلسطينية. والواقع أن الهبة الشعبية بمجملها آثرت الابتعاد عن التنظيمات والفصائل، وربما يكون هذا الابتعاد أحد أسباب استمراريتها وليس العكس، فالفصائل الفلسطينية، خصوصاً حركتي فتح وحماس، محكومتان بحساباتهما الخاصة، فواحدة مكبلة باتفاق أوسلو وملحقاته، وأخرى بالتهدئة مع الاحتلال، الأمر الذي يحرر الهبة الشعبية من أي قيود أو التزامات تبقيها معرضة للضغوط. وهذا ما نجحت فيه بالفعل. فعلاوة على الفشل الاستخباراتي والأمني للاحتلال بكل بطشه وجبروته وآلته القمعية، لا تملك السلطة ولا الفصائل إمكانية وقفها، سواء جاءت هذه الضغوط من عواصم الغرب أو الأمم المتحدة أو غيرهما، ومن الواضح أنها تتطور وتمضي بثبات نحو الانتفاضة الشاملة، ولكن عندها لكل حادث حديث. younis898@yahoo.com
مشاركة :