البنوك المركزية وشروط إصدار العملات الرقمية

  • 9/9/2021
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

نظراً لكون البنوك المركزية مقدراً لها، في آخر المطاف، أن تدعم مزوّدي السيولة على نطاق واسع، فإن المجتمع سيكون أفضل حالاً إذا وفرت السلطات النقدية تلك السيولة بنفسها. ولا يمكن أن تُثار أي شكوك بشأن جودة دعم العملة الرقمية التي يصدرها البنك المركزي. ومثل هذه العملة لن تكون مدعومة بالمال، لأنها ستكون مالاً. ولا ينبغي للمنظمين الحذرين أن يقدموا وعوداً بالتصدي لجميع أزمات السيولة في المستقبل، إلا أنه يمكنهم منع ضغوط السيولة التي يمكن التنبؤ بها إلى درجة كبيرة، والتي تنجم عن سحب إمدادات كبيرة جداً من العملات المستقرة. ويجب أن يفعلوا ذلك الآن. إن ما تعنيه السيولة بالنسبة للاقتصاد الحديث هو ما تعنيه مادة التشحيم بالنسبة لمحرك السيارة. إذا وفرت منها ما يكفي، فسيعمل المحرك بسلاسة، ثم يفشل، والنتيجة هي زوبعة من دخان أحمر ساخن. ولكن قياس زيت التشحيم عملية سهلة، أما السيولة المالية فهي ليست مستقرة، إذ دائماً ما تكون الأزمة المالية على وشك الحدوث، وقد تنجم الأزمة المقبلة عن الارتفاع السريع في العملات المشفّرة، وخاصة ما يسمى بالعملات المستقرة. إن الأزمة المالية هي اسم آخر للنضوب المفاجئ للسيولة، فقبل الانهيار المالي العالمي الذي حدث عام 2008، كانت المؤسسات المالية الخاصة تتجه نحو ذلك النضوب. حيث كانت تجزِّئ الرهون العقارية ضعيفة الجودة، وتدمجها في أصول مالية كانت سائلة وجذابة، وفي أحد الأيام لم تعد كذلك، إذ بدأت الأطراف الفاعلة المالية التي أصيبت بالذعر فجأة، في إغراق كل شيء في محافظهم الاستثمارية، بما في ذلك صناديق أسواق المال شديدة الأمان التي يبدو أنها «هبطت إلى ما هو أقل من دولار واحد»، وهي ظاهرة تعادل عدم قدرة المودعين في البنوك على سحب أموالهم بالكامل. وكانت هناك موجة أخرى من عملية سحب الأموال من صناديق سوق المال في أوائل عام 2020، نظراً لانتشار الذعر جراء فيروس كورونا، إذ حتى سندات الخزانة الأمريكية تعرضت مؤخراً للسحب. إن نوبة الخفض التدريجي السيئة السمعة التي حدثت في عام 2013، والصدمات التي تعرض لها سوق إعادة الشراء في سبتمبر 2019 ومارس 2020. والتي لم تدم طويلاً، لكنها كانت قوية، تضمنت جميعها ارتفاعات في عوائد سندات الخزانة. وفي مارس وأبريل من هذا العام، تأرجحت أسعار السندات مرة أخرى بصورة كبيرة، حيث استوعبت الأسواق تداعيات أحدث حزمة تحفيز أمريكية، والعالم اليوم غارق في السيولة. وهذا هو الوقت المناسب تماماً لكي يبدأ المنظمون وصانعو السياسة النقدية في الاستعداد لأزمة السيولة القادمة. ويجب أن يركزوا أكثر على أحدث مثال متعلق بخلق السيولة الخاصة المبتكرة: العملات المشفرة، والعملات المستقرة على وجه الخصوص. إن العملات المستقرة هي نقود رقمية أنتجتها شركات خاصة، ومن المفترض أن تكون مدعومة بأصول آمنة مثل العملة الورقية أو السندات الحكومية. ونظراً لأن هذه العملات المعدنية عالية السيولة وسهلة التداول، يفضل الناس إجراء عمليات شراء بها بدلاً من محفظة السندات المرهِقة. ويعني الدعم الآمن المفترض للعملات المستقرة أنه يجب تداول كل عملة قيمتها دولار أياً كان نوعها مقابل دولار واحد بالضبط. ولكن على غرار العديد من الأصول السائلة الأخرى، فإن العملات المستقرة معرضة للسحب، فإذا كان سعر النقود سيظل ثابتاً، يجب أن يكون مُصدّرو العملة المستقرة مستعدين للتخلص من إمداداتهم من تلك العملة بالكامل فور إبلاغهم بذلك، ومنح أصحابها العملة في المقابل. ومع ذلك، هل سيقدرون على القيام بذلك؟ إن هذه الشكوك هي بالضبط أول عامل سيؤدي إلى السحب. وفي ورقة بحثية أنجزت مؤخراً، جادل (غاري بي. غورتون) من كلية ييل للإدارة، و(جيفري واي زانغ) من الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بأن الأصول التي تدعم العملات المستقرة أقل أماناً مما يفترض أن تكون. وقد اقتبسا من تأكيد المدعية العامة لنيويورك، ليتيسيا جيمس، التي رفعت دعوى قضائية ضد شركة إصدار العملات المستقرة الرائدة «تيثر» ومديرها، أن «ادعاءات (تيثر) بأن عملتها الافتراضية كانت مدعومة بالكامل بالدولار الأمريكي في جميع الأوقات كانت كذبة»، إذ يشمل دعم العملة المستقرة السندات الحكومية والنقد. ولكن أيضاً «المستحقات الغامضة من القروض التي قدمتها «تيثر» إلى أطراف ثالثة»، وهذه نسخة جديدة من مشكلة قديمة. كما أن مجالس العملة مثل تلك التي كانت تديرها الأرجنتين في التسعينيات من القرن العشرين كانت عرضة لأزمات الثقة والسحب. وكان من المفترض أن يكون (البيزو) الأرجنتيني آمناً لأنه كان مدعوماً بالكامل باحتياطيات الدولار، ولكن الشيطان، كالعادة، كان يكمن في التفاصيل، وعندما دُرست التفاصيل ظهر السلوك الشيطاني للبنك المركزي الأرجنتيني، إذ تلاشى طلب السوق على (البيزو) بين عشية وضحاها، وانهار مجلس العملة، وانهارت معه الحكومة في عام 2002. ويُظهر التاريخ أن الطريقة الوحيدة لجعل الأصول آمنة حقاً هي منح مُصدريها حق الوصول إلى مُقرض الملاذ الأخير الذي يدعم جميع المطالبات ذات الصلة، دون طرح أي أسئلة. فقد كانت عمليات السحب من البنوك شائعة في الولايات المتحدة إلى أن اقتُرح تأمين الودائع المدعومة بالإيمان والائتمان الكاملين لحكومة الولايات المتحدة. ولم يكن لدى الأرجنتين إمكانية الوصول إلى المقرض بالدولار كملاذ أخير، لذا كان مصير مجلس عملتها هو الانهيار عاجلاً أم آجلاً. ويوثق غورتون وتجانغ كيف أصبح بنك الاحتياطي الفيدرالي ووزارة الخزانة الأمريكية بحكم الأمر الواقع مقرضَي الملاذ الأخير لشركات الصناديق المشتركة في الولايات المتحدة، بعد إنقاذها في عام 2008 ومرة أخرى في عام 2020. وفي ورقة أخرى أصدرت مؤخراً، زعمتُ أنا وغيليرمو كالفو من جامعة كولومبيا أن دعم بنك الاحتياطي الفيدرالي هو بالتحديد العامل الذي يمنح سندات الخزانة الأمريكية السيولة. واستجابة لضغوط السوق، اشترى بنك الاحتياطي الفيدرالي تريليون دولار من سندات الخزانة في فترة الأسابيع الثلاثة من 16 مارس 2020، ثم واصل شراءها بكميات كبيرة. ويمكن قول شيء مشابه عن سندات منطقة اليورو، التي كما تعهد ماريو دراغي في عام 2012، عندما كان رئيساً للبنك المركزي الأوروبي، أن هذا الأخير سيقوم «بكل ما يلزم» لحمايتها. إن عمليات السحب تدمر أسعار الأصول، ومن ثم الميزانيات العمومية، كما أنها تدمر السيولة التي تجعل الاقتصاد ضعيفاً. لذا فإن البنوك المركزية محقة في اضطلاعها بدور مقرض الملاذ الأخير للحكومات، والبنوك، وربما لفئات الأصول التي تتمتع بالحماية من الأزمات مثل الصناديق المشتركة. ولكن نظراً لكون هذه الحماية قوية جداً، يجب أن تُستخدم بصورة محدودة، ثم بعد ذلك تستخدم فقط فيما يتعلق بالأصول الصادرة عن مؤسسات منظمة بعناية ويمكنها ضمان الشفافية الكاملة. ولا توجد حجة قوية تدعم تطبيق حماية مقرض الملاذ الأخير فيما يتعلق بالأصول المشفرة التي تصدرها شركات خاصة، بما في ذلك العملات المستقرة. والأحرى أنه يجب على الحكومات تنظيم العملات المشفرة بصرامة أكثر قبل أن تصبح معرضة للانهيار، فيحدث ذلك بحكم الأمر الواقع إن لم تكن محمية بموجب القانون. وفي الواقع، لن يحدث أي ضرر كبير إذا تم إخراج هذه العملات الرقمية من الوجود. وبمجرد أن تصبح الشركات والأسر بحاجة إلى عملة رقمية سهلة الاستخدام، لا شيء يمنع البنوك المركزية من إصدارها. * مرشح رئاسي ووزير للمالية في تشيلي سابقاً، ويشغل حالياً منصب عميد كلية السياسة العامة في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية طباعة Email فيسبوك تويتر لينكدين Pin Interest Whats App

مشاركة :