موسوعة عربية عن «الفلسفة الفرنسية المعاصرة»

  • 9/9/2021
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

بعد ثلاث سنوات من الجهد المكثف أبصر النور المجلد الأول من موسوعة «الفلسفة الفرنسية المعاصرة» المخصص للبحث في موضوع «فلسفات البنيوية والتفكيك والاختلاف»، عن «دار صوفيا» في الكويت. وتتكون الموسوعة التي يعمل على إنجازها أكثر من 100 باحث من مختلف الأقطار العربية، من عشرة مجلدات، الأربعة الأولى منها باتت شبه جاهزة، بحيث يصدر الثاني منها قريباً عن نفس دار النشر ويدرس «الفِنومِنولوجيا وتفرّعاتها والفِسارة الفلسفيّة»، فيما يتم العمل على باقي الأجزاء لتصدر تباعاً. وتخصص الأجزاء اللاحقة لدراسة فلاسفة «التفكّريّة والشخصانية والوجودية»، وكذلك فلاسفة «الجمال»، و«الهيغليّة، الماركسيّة والفلسفات التاريخيّة التفكيكيّة»، إضافة إلى «الفلسفة المسيحية»، و«الفلسفات الاجتماعيّة والنفسيّة والتربويّة» وكذلك «التطبيقية العيادية» و«الأخلاقية» و«القانون» و«التقنية والإعلام»، وغيرها. المشروع الذي يشرف عليه الدكتور مشير باسيل عون، أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية يسير بوتيرة سريعة، حيث يتم تنسيق العمل ومتابعة الأبحاث مع عشرات الباحثين بعد أن اختار كل منهم فيلسوفاً فرنسياً من القرن العشرين، ليقيم دراسته حوله. وهي موسوعة بحسب باسيل لا مثيل لها في اللغة العربية ولا حتى بالفرنسية أو الإنجليزية والألمانية. لأنها تلقي الضوء على أكثر من مائة فيلسوف، تبعاً للمدرسة أو التيار الذي ينتمي إليه كل منهم. وتتضمن الموسوعة أيضاً دراسات حول إسهامات عدد من الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين الذين لم يتهيّأ للعالم العربي حتّى الآن أن يحظى باستعراض علمي أمين لفكرهم وأثرهم. أما المعروفون من الفلاسفة، فإن وجودهم إلى جانب زملائهم الآخرين في مثل هذه الموسوعة العلمية يساعد القارئ العربي على الفوز بتصوّر أوضح للمشهد الفلسفي الفرنسي المعاصر برمّته. وخصص المجلد الأول الذي أصبح بين أيدينا، للبنيويين والتفكيكيين، نظراً لأهميتهم، وللدور الرئيسي الذي لعبوه، في إعادة إثارة الاهتمام بمن سبقوهم. فقد كان لهؤلاء من أمثال رولان بارت، وجيل دلوز، وميشال فوكو، وجاك دريدا شجاعة إعادة قراءة كبارهم من أمثال هيغل ونيتشه وماركس وهايدغر، والإضاءة على ما بقي محجوباً من أفكارهم «فقد فكك دريدا هايدغر، الذي كان أسير الميتافيزيقية، وفكك مقولة اللوغس لديه». وفي مقدمة الجزء الأول يشرح د. عون أن البنيوية الفرنسية التي «أعلنت منذ عام 1966 موت الإنسان الفردي والجماعي، وأخذت تبحث عن البنى المنحجبة التي تؤثر في اعتمادات الوعي الإنساني الفردي والجماعي، من جراء هذا الإعلان انقلبت البنيوية لفلسفة تشمل اللغة والمجتمع والتاريخ والإنسان، فتعنى بجميع اختبارات الوعي وتردها إلى منحجباتها الفاعلة». وكما في كل مرة توضع فيها الكتابة عن الفلسفة على محك الاختبار، فالسؤال الذي يُطرح: هل ستكون الموسوعة في أسلوبها في متناول الجميع أم أنها وضعت للمختصين والأكاديميين، وحسبما يقول د. عون: «حاول البحاثة أن يتخذوا نهجاً وسطاً، فلم يبسّطوا حد السقوط في الابتذال كما أنهم لم يصعبّوا على القارئ العادي غير المتخصص مهمته. هي موسوعة للقارئ العادي الذي حتى، وإن فاتته بعض الأفكار أو المصطلحات، فهو سيجد ضالته، في النهاية، وسيتمكن بفعل مواصلة القراءة، من فهم غالبية النصوص». مسألة تبسيط الفلسفة هي موضع نقاشات متواصلة في العالم، لما للفكر الفلسفي من أهمية، يمكنه أن يسبغها على حياة الناس اليومية، إذا ما أصبحت الأفكار الفلسفية في متناول الجميع. غير أن المجتمعات العربية لا تزال بعيدة عن طموح التعاطي مع الفلسفة كجزء من الثقافة العامة. لهذا يقول د. عون: «إن مصير الفكرة الفلسفية في مجتمعاتنا لا يزال مجهولاً لأنها أفكار لا تؤثر في واقعنا. فالإنسان عندنا قد يقرأ الفلسفة لكنها تبقى موضوعاً نظرياً بالنسبة له، ولا تؤثر في واقعه. كما يمكن أن نرى عالماً متعمقاً في اختصاصه، لا غرابة في أن يقبل على ارتكاب عملية إرهابية، وكأن ما تعلمه يبقى في منأى عن التأثير على سلوكه الذاتي». وضع وتأليف الموسوعات، هي مهمة عادة ما تضطلع بها مؤسسات بحثية، لتتمكن من إكمال عمل يحتاج أعواماً وأعماراً، لكن دكتور عون أخذ على عاتقه موضوع الإعداد ووضع التصور والتحرير والمراجعة والنقاش مع الباحثين، إضافة إلى العثور على ناشر. وهو يصف المهمة بأنها «شاقة»، ولن يكررها منفرداً، مع أن مشروعه يتجاوز الفلسفة الفرنسية المعاصرة. فالهدف النهائي هو الانتقال إلى موسوعة «الفلسفات الأُوروبيّة الكبرى»، لكن دائماً الهدف هو الفلسفة المعاصرة. والمقصود هنا هم الفلاسفة المولودون في القرن العشرين الذين شيدوا صرحاً فلسفيّاً أصيلاً أثرى المشهد الفلسفي الكوني المعاصر. وعليه، بحسب د. عون فإن المشروع يستطلع توجّهات الفلسفات القاريّة المعاصرة: الفرنسيّة، الألمانيّة، البريطانية، الأميركيّة، الإيطاليّة، الإسبانيّة، الإسكندنافية، الأميركيّة اللاتينيّة، الأفريقيّة، الصينيّة، الهنديّة، اليابانيّة، وغيرها. لكن أستاذ الفلسفة اللبناني، الذي يعي صعوبة القيام بالمهمة يقول: «أبذل جهداً كبيراً لإنهاء الموسوعة الفرنسية، وأعي تماماً أن ما أصبو إليه يفترض أن تتبناه مؤسسة تأخذ على عاتقها هذا الجهد الكبير. لغاية اللحظة كل الباحثين من لبنانيين وعرب يقومون بالأبحاث تطوعاً، مشكورين، لكن سد هذه الثغرة في المكتبة العربية بموسوعات على هذا النحو يلزمه دعم لا يمكن أن يقوم به فرد». ويجد القارئ في الجزء الأول، 14 فيلسوفاً فرنسياً عرفوا بمنهجهم البنيوي التفكيكي، بينهم جورج باتاي، موريس بلانشو، إميل سيوران، جان فرنسوا ليوتار، بيار بورديو، سارة كوفمان، وغيرهم، إضافة إلى مقدمة قيمة تؤكد أن «البنيويّة هي الشرارة الأصليّة التي أضرمت المسعى الفلسفي الفرنسي المعاصر بأسره في سياق تدبّر مسائل التفكيك والاختلاف. وما الفلسفات المتمردة العاصية الانتهاكيّة سوى الثمرة التي أنضجتها البنيويّة في الأذهان حين أدرك الفلاسفة الفرنسيّون في معظمهم أن الواقع هو بنية خفيّة، مرّكبة، معّقدة، متشابكة، بها تنتظم جميع تجليات المسلك الإنسانيّ، وفيها تلتئم رغبات التفّرد والتغرب والتمّرد». يشرح الكتاب كيف ولدت البنيوية التي حمل لواءها كلود ليفي ستراوس ورولان بارت وجاك لاكان، بعد أن وضع لها فرديناند دسوسير مبادئها الأولى وأحكامها الأساسية في الألسنية البنيوية. ولم تبق الدراسات حبيسة الإشارات والدلالات فانتقلت مع ليفي ستراوس إلى حقل الإنتروبولوجيا، ليبين كيف أن كل أسطورة وعادة، تكاد تستند إلى بنية مكتومة لأوعية ينبغي الاستدلال عليها لكشف عمق النشاط الإنساني.

مشاركة :